السبت، 12 ديسمبر 2020

التوق إلى المواساة



تتمحورُ حياة الإنسان حول مجموعةٍ من الآمال والمخاوف، فهو يتأرجح على طرفيّ الخوفِ والرجاء، وكثيراً ما يفقد اتزانه نتيجةً لمصاعب الحياة: حين نفقد من نحب، حين نخاف من خطرٍ وشيك، حين نأمل بحياةٍ أفضل، حين تتعب أجسادنا، حين تُكسَر قلوبنا. هذه اللحظات هي لحظاتُ التوقِ إلى المواساة.

هذه المصاعب من مُسلمّات الحياة التي لا مناص منها، وعلى الرغم من ثقلِها الذي تلقيه على نفوسنا، إلا أنّها قابلةٌ للتخفف. في هذه الأوقات نحتاج إلى أن نستمد القوة من الخارج، من المحبين، الأصدقاء، المحيطين بنا، وفي بعض الأحيان من المرشدين والمعالجين النفسيين. في أشد لحظات الضعف نفتح قلوبنا لهم، وأعيننا عليهم، ليشّدوا على أيدينا، ويكونوا عوناً لنا.



هل نُجيد المواساة؟

"لا أحد يتواصل معنا أملاً في لطفنا، أو طمعاً بنصائحنا. إنهم يتواصلون معنا لأنهم يؤمنون بقدرتنا على معرفة ظلامنا جيدًا، بما يكفي للجلوس معهم في ظلامهم. "

 Brené Brown برينيه براون(1)


حين يلجأ إليك شخص حزين أو مكروب، ماذا تفعل؟ ماذا تقول؟ إلى أي مدى تساعده استجابتك على التخفف من ضيقه، هل تواسيه حقاً؟ أم أنك تصّعِب الأمور عليه؟

هذه التساؤلات ليست وليدةَ اللحظة، بل هي وليدةُ ملاحظاتٍ كثيرة، أرى فيها أنماطاً من الاستجابة لضيقِ الآخرين تفاقمه وتزيده سوءاً، إما بالتهوينِ المُهينِ لشعور الشخص، أو التحفيزِ المستفزِ لآلامه.

كل ما يتوق إليه الشخص في لحظات الضيق هو المواساة، وهي في جوهرها؛ أن يجدَ صدىً من محيطه يخبره بأنّ ألمه مفهوم، مشروع، ومؤقت. ما نفعله في كثير من الأحيان هو أننا نستجيب بانفعال، مدفوعين برغبتنا في ألّا نرى من نحب يتألم، ندفعه باتجاه التجاوز، والتخطي. نتخذ موقف الدفع إلى الأمام، لأننا لا نستطيع أن نصغي ونتفهم، هذا العبء العاطفي فوق احتمالنا، لذلك نزيحه عنّا بهذه الطريقة، ونشعر حينها أننا أنجزنا المهمة بنجاح. في الواقع، هذا النوع من المواساة كان لأنفسنا، ولم يكن للآخر.

المواساة مهمة نبيلة، لكنّها ليست سهلة، فهي لا تهدف إلى دفع الآخر إلى تجاوز الشعور، على العكس، هدفها الأصلي هو احتواؤه، حتى يشعر الشخص بأريحية لكونه مُتألِم، بوجودك معه في هذه الحالة، أنت تخبره بأنه حتى في حالته هذه لايزال مقبولاً ومُرَحَباً به، وهذا يزوّده بمؤونةٍ عاطفيةٍ تُمّكنه من التعبير عن ألمه بشكلٍ صحّي.

كلمات المواساة الشائعة في ثقافتنا قد تؤدي غرضها أحيانا، لكنها في أحيان أخرى قد تفاقم الألم بإقصائه إلى أعماق الشخص. الصمت -ربما- هو أعلى درجات المواساة، لحظات الصمت هي لحظات التواصل النقي مع الآخر، هذه اللحظات التي قد تفتح بعدا جديدا للشخص يمكن من خلاله أن يحرر ألمه من قبضة الذات. القدرة على الإصغاء شرطٌ مسبق للقدرة على المواساة، لم يصِفْ أحد معنى الإصغاء، وأثره على النفس ببراعة مثل كارل روجرز حين قال: 

 ‏"إنه لأمرٌ مدهش كيف يتمكن الشخص من إعادة تقييم عالمه والمضي قدماً، عندما يجد من يصغي إليه حقاً. تصبح الكتل التي تعيق حياته قابلة للذوبان، وتتحول الالتباسات المُربِكة إلى تيارات متدفقة. لطالما كنت أكنُ تقديراً عظيماً لتلك الأوقات التي مررت فيها بهذا الإصغاء الحساس." (2)

الإصغاء هو روح المواساة، أن تصغي يعني أن تحتمل العواصف التي يستثيرها ألم الآخر فيك، أن تكون كالشراع للسفينة. لا يمكن أن ندعم بعضنا البعض دون أن نكون قادرين على تقديم المواساة بشكلها الخام؛ المواساة التي تبدد فظاعة الشعور. وتهمس بصوتٍ خافت ودافئ للآخر بأنك لست وحيداً، ولست غريباً.


المصادر:

 Daring Greatly: How the Courage to Be Vulnerable Transforms the Way We Live, Love, Parent, and Lead - brene brown

 On Becoming a Person: A Therapist's View of Psychotherapy - Carl Rogers

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق