الجمعة، 14 أكتوبر 2022

 الخبرة المُعاشة (العلاقة بين الأنا والعالم)

 "كل عملية عقلية تحدث في قالب شخصي"
وليام جيمس

بدأ علم النفس بدراسة الإنسان وفقاً للتصور الوضعي، حيث كان الانشغال الأساسي هو تتبع ردود الأفعال، تبعاً للافتراض بأن الإنسان هو كائنٌ رد فعلي Reactive Being، محكومٌ بقوى خارجية ومحفزات داخلية تحتم عليه سلوكه. لذا كان يسود التركيز على الجوانب الملاحظة والمحسوسة، لأن هذه الجوانب يمكن ضبطها، بينما أُغفِلت لزمن الجوانب الرمزية التي لا يمكن ضبطها.

وطرق العلم الوضعي -على أهميتها- ليست كافيةً لنقل صورة واضحة لطبيعة الإنسان، إذ تستبعد أكثر أدوات البحث ملائمةً لدراسته: الظاهراتية Phenomenology، فلا يكفي أن نعرف كيف يستجيب ويتصرف الإنسان، لا بد أن نعرف كيف يَخبُر الأحداث، كيف يشعر، وكيف يرى العالم.

أصبح للظاهراتية ثقلٌ طاغٍ على علم النفس منذ بزوغ نجم منظري علم النفس الإنساني والوجودي، وفر إدماج الظاهراتية في المجال النفسي مقاربة تلتقط الوجود بأبعاد متعددة. حيث لا يسكن الجانب النفسي للإنسان في الدماغ، ولا السلوك، ولا يتخفى في دهاليز اللاوعي، بل في تجربته الحية. فالوجود يتمثل للفرد بمنظوره الخاص: علاقة فريدة بين الأنا والعالم تُصاغ بواسطة الخبرات التي يعيشها الشخص. وبالطريقة التي يدرك بها هذه الخبرات ويتفاعل معها، يتبدى له وضعه وموضعه في هذه الحياة.

نتشابه كثيراً في مسارات وخبرات الحياة التي نمر بها، تكاد تكون بشكلها الأعم متطابقة، إلا أنّ وقع هذه الخبرات المعاشة على دواخلنا له طيف لا محدود. يوجد مجال نفسي تفاعلي يكمن بين الواقع والوعي تعبر من خلاله الخبرات، وهناك تتغير خصائصها ومعانيها بالنسبة لنا، لا نرى الواقع جميعا بنفس العدسة، لدى كلٍّ منا تصميمه الخاص.

 كل شئ في هذا الوجود له أربع مراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البياض المكتوب عليه. أبو حامد الغزالي

 وهذه الوجودات الأربعة كما يرى الغزالي مستقلة عن بعضها البعض، إلا أنها مترابطة ومتفاعلة فيما بينها. تكاد تكون أحد أهم الحقائق النفسية هي أن الموجود في الذهن لا يتسق دائما مع الواقع الموضوعي، وأحياناً كثيرة قد يناقضه. الموجود في الذهن لغة "وكل اللغة مجاز" كما يقول نيتشة.

كيف تتشكل هذه العلاقة بين الواقع النفسي (الداخلي) والواقع الموضوعي (الخارجي) ؟

يجيب المحلل النفسي بيتر فوناغي Peter Fonagy بشكل جزئي على هذا السؤال فيما أسماه بأوضاع الخبرة النفسية The Modes of Psychological Experience التي تعكس إحساسنا بالعلاقة بين العالم النفسي الداخلي والواقع الخارجي. يصف فوناغي ثلاثة من هذه الأوضاع:

  • وضع التكافؤ Mode equivalence

في وضع التكافؤ، يتم ببساطة مساواة العالم النفسي الداخلي والواقع الخارجي. لا يوجد فرق هنا بين المعتقدات والحقائق. فما يحدث لنا في الواقع، هو بالضبط ما نفكر ونشعر به،. في هذه الحالة الذهنية، عندما نُعامَل معاملة سيئة، من المحتمل أن ندرك بأننا سيئين بالفعل،ونشعر بذلك، ونتوقع بأننا سنعامل معاملة سيئة. وفي مثل هذا النظام المغلق يميل الشخص إلى الانغماس في الخبرة: لا يوجد "أنا" تفسر أو تخلق خبرة، فقط يوجد "أنا" تحدث لها الخبرات.

  • وضع التظاهر Pretend Mode

في وضع التظاهر ينفصل العالم النفسي الداخلي عن الواقع الخارجي. هنا نرجّح العالم النفسي الداخلي في التماس الحقيقة: كل ما نفكر به ونتخيله هو حقيقي، وكل ما نتجاهله يصبح غير موجود. التفكك، والانفصال، والعظمة النرجسية كلها أمثلة متطرفة على وضع التظاهر. في هذا الوضع، تكون الذات مترجم متحيز وانتقائي للخبرة، بحيث تعيد تخليقها داخلياً بشكل منفصل عن الوقائع.

  • وضع الإعقال (أو الوضع التأملي) mentalizing or reflective) mode)

في وضع الإعقال، نحن قادرون على إدراك أن العالم النفسي الداخلي منفصل عن الواقع الخارجي، ولكنه مرتبط به أيضًا. نمتلك عمق تفسيري للخبرات، نستطيع فهم الأحداث الواقعية، وطريقة تأثرنا بها، وردود فعلنا تجاهها، نستطيع فهم أفكارنا ومشاعرنا، وطريقة تأثيرها على واقعنا – وهذا يمكننا من التمتع بقدر من الحرية الداخلية والاحساس بالتمكين. يرينا هذا الوضع عالم خارجي غني ومعقد وغامض. بالتزامن مع آخر داخلي، لدينا فيه القدرة على مراجعة أفكارنا بخصوص ما يحدث، وإحداث تغيير في واقعنا الفعلي. وهذا الوضع النفسي الذي يحدث فيه التعلم والنمو والنضج.

وفقًا لـفوناغي، تتكشف هذه الأوضاع بالتتابع في مسار النمو الطبيعي. في البداية، يعيش الرضع والأطفال الصغار في وضع التكافؤ النفسي، حيث يكون العالم الداخلي بشكل مقنع -وأحيانًا مرعب- حقيقياً. ثم يجدون نوعًا من التحرر من خلال وضع التظاهر في اللعب التخيلي الذي تكون فيه التجربة الذاتية منفصلة تمامًا عن الواقع، يمكنهم -ببساطة- التظاهر بأن قيود الواقع غير موجودة. أخيرًا، في التطور الطبيعي، بدءًا من السنة الرابعة تقريبا، يحدث تكامل بين هذين الوضعين السابقين. الآن العالم الداخلي ليس مكافئاً للواقع، ولا مفصول عنه تمامًا. مع ظهور وضع الإعقال تتزايد القدرة على النظر في العلاقة بين الواقع النفسي الداخلي والواقع الخارجي.

الذات التأملية كنقطة ارتكاز نفسية وأخلاقية

"الذات تنمو في ضوء مقدرتها على تنظيم العالم الداخلي وفقاً للحقائق الموضوعية، وتتدعم وتتقوى بواسطة اختياراتها"
موريس تيميرلين

 كل نمو حققته البشرية كان مرهون بالنظر إلى الماضي والحاضر بطريقة فعالة تساهم في جعل المستقبل أفضل، وهذه ميزة التفكير التأملي reflective thinking كل فعل تأملي وتفسيري للخبرات التي نمر بها هو خطوة لإعادة التوازن بين الذات والواقع، تعريض أفكارنا ومشاعرنا للتفنيد والتحييد، عن طريق تدوينها في نص، أو مشاركتها في حوار، هو أحد الأمور التي تقينا من الميل المتطرف إلى أحد الجانبين، حين نخرج المكنون فينا عن حيز ذاتيتنا يمكن أن نعيد تقييمه بموضوعية أكبر، يحدث هذا -عرضاً- حين نقرأ نص يشبهنا، ونتمكن من القبض على ماهو ذاتي خارجنا، فيبدو أكثر قابلية للفهم والقبول، الأمر أشبه بخلق مسافة بين الذات والخبرة، يمكن للشخص الوقوف عليها، وإعادة النظر إلى خبراته كشيء منفصل بحرية أكبر.

"يتطلب اكتساب المشاعر الأخلاقية أن يكون الفرد مساهما نشطا في نموه، وفي تفسير عالمه، وإصدار الأحكام التي تحدد أفعاله."

يخرجنا هذا الفهم -جزئياً- من الاستغراق في الحتمية النفسية الجامدة. وفقا للمنظور الإنساني والوجودي الإنسان ليس مجرد متلقي آلي تحدث له الأحداث، الإنسان أيضا فاعل وخلاق، يمتلك هذا البعد التأملي والتأويلي لما يحدث له. والذي يمكنه من حرية الاختيار. والاختيار موقف أخلاقي تجاه الذات وتجاه العالم. 


المصادر: 

علم النفس الإنساني لفرانك سيفرين، ترجمة: طلعت منصور، عادل عز الدين، فيولا الببلاوي، مكتبة الانجلو المصرية 2020.

Castonguay, L. G., & Hill, C. E. (2012). Transformation in psychotherapy: Corrective experiences across cognitive behavioral, humanistic,and psychodynamic approaches. American Psychological Association 

‏.Wallin, D. J. (2007). Attachment in psychotherapy. Guilford press

‏ Stanghellini G, Aragona M. Phenomenological psychopathology: toward a person-centered hermeneutic approach in the clinical encounter. In: Stanghellini G, Aragona M, editors. An experiential approach to psychopathology: what is it like to suffer from mental dis-orders? Berlin, Heidelberg, New York: Springer; 2016. pp. 1–43.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق