الاثنين، 8 أبريل 2019

نظرة على بعض مفاهيم العلاج بالقبول والالتزام

" تجنب ألم الوجود يؤدي إلى ألم الغياب - تجنب الألم يؤدي إلى فقدان الحياة"


ستيفن هايز


يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: "يُشمَئز من الألم في الوقت الحاضر، لدرجة أنه بالكاد يمكن قبول الألم كموضوعٍ للتفكير".
بطبيعتنا نفترض أن السعادة هي تجنب الألم والسعي للمتعة، منذ الصغر تعلمنا الكثير من القواعد الثقافية التي تشبعت بها عقولنا حول أن الشعور بالارتياح هو الدليل على الصحة والسعادة، بينما تمثل المشاعر المؤلمة، الأفكار المشوشة، الذكريات الحزينة، والأحاسيس الجسدية غير المريحة تهديداً خطيراً لصحتنا وسعادتنا، لكن الخطير بالفعل هو خضوع عقولنا لهذه القاعدة، لأننا حين نحاول حماية أنفسنا من هذه التجارب باستنفار "قوة الإرادة" في سبيل السيطرة والتخلص منها فإنها -للأسف- تصبح أكثر التصاقاً بوعينا، وأكثر إيلاماً لنا، ومن هنا تنبثق رؤى العلاج بالقبول والالتزام فهو يعارض هذه الافتراض، ويقدم افتراضاً أكثر واقعية مبني على التجربة، وهو أن الحياة القيّمة ممكنة ومتاحة حتى مع وجود قدرٍ من الألم، وأن محاولات تجنبه هي ما يمنع تحقق مثل هذه الإمكانية.
عند قراءتي في أسس العلاج بالقبول والالتزام وجدت مواساة عميقة تتدفق من بين الأسطر، هناك إمكانية للخروج من فخ السعادة، السعادة التي لطالما رُوِّج لها وكأنما هي الشيء الوحيد الذي يستحق أن نعيشه، وأي شعورٍ سواها يمثلُ خللاً يستوجبُ التعديل، أو خطأ ًيستوجب التصحيح، وبدلاً من أن يعيش المرء حياته، تتسلل من بين يديه وهو عالقٌ في محاولات تعديلها وتصحيحها.

ما هو العلاج بالقبول والالتزام؟
العلاج بالقبول والالتزام يرمز له اختصاراً بـ آكت ACT هو منهج علاجي يصنف ضمن الموجة الثالثة للعلاجات السلوكية الذهنية، فبينما يهدف العلاج السلوكي الذهني إلى التعامل مع الأفكار، ومحاولة تغييرها وإعادة هيكلتها، تهدف علاجات الموجة الثالثة إلى إعادة تشكيل علاقة الشخص بتجاربه ( أفكاره، مشاعره، أحاسيسه)، ويمكن تقسيم العمليات في آكت إلى مجموعتين:
الأولى: عمليات القبول واليقظة الذهنية
الثانية: عمليات الالتزام بالقيم وتغيير السلوك
ميزة هذا المنهج العلاجي هو أنه يعتمد على إعادة صياغة النظرة إلى التجارب المؤلمة، ويتضمن أيضاً الالتزام بالقيم: وهي كل ما يشكل أهمية وقيمة للإنسان حتى يعيش حياة ذات معنى، وهذه العمليات متداخلة ومترابطة، ويدعم كل منها الآخر.
والجمع بينهما يوفر تعريفًا عمليًا لـ آكت وهو "المنهج العلاجي الذي يستخدم عمليات القبول واليقظة الذهنية ،وعمليات تغيير السلوك والالتزام ، لإنتاج أكبر قدر من المرونة النفسية".
وبالتالي فإن  آكت يوازن ما بين محور التغيير السلوكي/ الالتزام في المجالات التي تتطلب تغيير السلوك ليتوافق مع القيم، ومحور القبول /اليقظة الذهنية في المجالات التي يكون فيها التغيير غير ممكن، أو غير مفيد، أو غير فعال. ووفقاً لستيفن هايز فإن" القبول ليس غاية في حد ذاته بل هو وسيلة لزيادة العمل المتسق مع القيم".
لا يتضمن آكت مجموعة محدودة من الاستراتيجيات العلاجية. لكنه يتضمن مجموعة واسعة  من تقنيات مجالات عامة كالقبول، التسامح مع الذات، الحضور واليقظة الذهنية، وتحديد القيم، وبناء أنماط من العمل الملتزم المرتبط بتلك القيم، كذلك يستخدم تقنيات من نظريات العلاج السلوكي التقليدي، العلاج السلوكي الذهني، وعلاج الجشطالت، وتستخدم هذه التقنيات في معالجة مشكلة معينة مع عميل معين   بالاستناد إلى صياغة الحالة الخاصة بآكت

كيف تختلق اللغة آلامنا النفسية ا؟
"اللغة هي في صميم المعاناة الإنسانية بشكل عام، و الاضطرابات النفسية على وجه التحديد".
ستيفن هايز

من المقاربات الحديثة نسبياً ما يعرف بنظرية الإطار العلائقي"ـRELATIONAL FRAME THEORY والتي كان لها تأثير كبير على منهج العلاج بالقبول والالتزام، تتناول هذه النظرية اللغة والعمليات الذهنية، ويهمنا هنا الافتراض الأساسي وهو باختصار-أرجو ألا يكون مخلاً - أننا كبشر نشتق باستمرار العلاقات بين الأحداث والمشاعر والخبرات والصور والكلمات. وذلك بسبب طبيعة اللغة الثنائية، فحين نتفاعل بشكل رمزي (لفظي) مع الحدث، فإن الخصائص الموجودة في الحدث تصبح موجودة جزئياً في الرمز، والعكس صحيح، فمثلاً حين يتحدث الإنسان عن تجربة صادمة فإن حديثه يستدعي ببساطة الألم الذي واجهه حينها، بمعنى أن استعمال اللغة يسمح للأحداث السلبية التي حدثت سابقاً بأن تتم خبرتها ومعايشتها في اللحظة الراهنة كأفكار واحاسيس ومشاعر غير مريحة، وهذا يعني أن تعامل الإنسان مع سلوكه الخاص رمزياُ قد يغير المعنى النفسي لكل من الرمز اللفظي والسلوك معاً،ومن هنا يمكن استنتاج آلية عمل العلاج  الذي يركز على فصل هذا الاندماج للمعنى النفسي بين الأفكار والحدث الفعلي، أو مايطلق عليه علمياً الاندماج/ الانصهار الذهني"cognitive fusion" في حالة الانصهار هذه نتصرف كما لو أن الأفكار والذكريات هي الواقع، هي الحقيقة، والانصهارالذهني وفقاً لأورسيلو ورومير (2007,Orsillo & Roemer ) هو العملية التي يصبح البشر من خلالها غير قابلين للتمييز بين تجاربهم الداخلية العابرة (مثل الأفكار والعواطف والأحاسيس الجسدية والصور) و الواقع، مثال:  إذا عاشت المرأة التي تعرضت لاضطراب ما بعد الصدمة ذكريات اغتصابها ، فإنها لا تعتبر هذه مجرد ذكرى، بل تأخذ الذكرى وظيفة التحفيز للحدث نفسه. ويكون رد فعل الخوف والتجنب كما لو أن الاغتصاب يحدث مرة اخرى الآن . وبالمثل ، بالنسبة لشخص يعاني من الرهاب الاجتماعي ، فإن تجربة فكرة "أنا فاشل" يمكن أن تكون قوية مثل تجربة شخص يعايش موقف اجتماعي يظهر فيه فاشلاً.
يدعم هذا الانصهار الذهني  التجنب الخبروي Experiential avoidance  وهو "أن يكون الشخص غير مستعد للبقاء على اتصال مع خبرات معينة، وقد تكون هذه الخبرات: أحاسيس جسدية، مشاعر،أفكار،ذكريات، ميول سلوكية) ويتخذ خطوات لتغيير شكل أو تكرار هذه الخبرات، والسياقات التي تحدثها "
(Hayes, Wilson, Gifford, Follette &Strosahl ,1996:1154)

فمن خلال اللغة يتم التنبؤ بالمشاعر السلبية، وبدعمٍ من الثقافة السائدة التي تضع السعادة و الراحة في قمة هرم الحياة القيّمة تتضخم سلوكيات التجنب للأحداث والسياقات التي قد تساهم في الشعور بتلك المشاعر، وهو الأمر الذي يُفقد الإنسان اتصاله مع اللحظة الحاضرة، ويضيق نطاق السلوكيات التي ترتبط بقيم الشخص، وتغذي معنى حياته.

المجاز/ الاستعارة كأداة علاجية في العلاج بالقبول والالتزام
الاستعارات تلفت الانتباه إلى السمات الهامة للموقف والتي قد لا يلاحظها الشخص، ويمكنها أيضًا تحويل المفاهيم المجردة إلى ملموسة، وخلق عالم لفظي يفتح المجال أمام تفكير أكثر مرونة وإبداع، فاللغة التي ساهمت في المشكلة ابتداءً يمكن أيضاً من خلالها أن نصنع الفرق ونتبنى نظرة جديدة أكثر مرونة لواقعنا، ووفقاُ لما أورده فودي وآخرون (Foody et al., 2014 ) فإن الاستعارات لها تاريخ راسخ كأدوات علاجية لعدة أغراض:
أولاً: التحقق من صحة تجربة العميل.
ثانيا: تعزيز وعي العميل بوضعه الحالي.
ثالثًا: الإشارة إلى مكمن صعوبات العميل، وبالتالي تسهيل تغيير السلوك.
تستخدم الاستعارات في آكت لنفس هذه الأغراض، لكن مع وظيفة إضافية تتماشى مع جذورها الفلسفية. حيث تخدِم الاستعارات تحديد المحتوى النفسي بطريقة تخفف من آثار "الانصهار الذهني"، و تُحدث تحولات في البناء العلائقي يمكن أن تسهل المرونة النفسية، وتزيد من احتمال الالتزام بسلوكيات جديدة.
أحد أشهر الاستعارات هي الرمال المتحركة النفسية psychological quicksand  ورد هذا التصور المجازي في كتاب (ابتعد عن عقلك واقترب من حياتك: العلاج بالقبول والالتزام Get out of your mind and into your life: The new acceptance and commitment therapy)  لستيفن هايز Steven Hayes، وهو يصور من خلاله فشل الآلية التقليدية التي نتعامل بها مع المشكلات النفسية أو الخبرات المزعجة/ المؤلمة، والتي تتضمن محاولات التخلص، السيطرة، والمقاومة، حيث شبه هذه الآلية في انعدام فائدتها بالطريقة التلقائية التي يبدأ بها شخص عالق في رمال متحركة محاولاته للخروج منها، سيبدأ برفع إحدى رجليه وستغوص الأخرى في العمق أكثر، سيحاول الجري وسيجد أن الرمال ترتفع لتغطي جزءً أكبر من جسده، ويستهلك في محاولاته تلك قواه العقلية والجسدية دون جدوى، لكن حين يتوقف عن هذه المقاومة و يقبل فكرة وجوده في هذه الرمال المتحركة ويفهم الطريقة التي تعمل بها، سيدرك أن التصرف الأكثر حكمةً، والأكثر أماناً هو الاسترخاء و الاستلقاء على سطح الرمال لتجنب الغرق.

المصادر:
Hayes, S. C. (2005). Get out of your mind and into your life: The new acceptance and commitment therapy. New Harbinger Publications.

Hayes, S. C., Wilson, K. G., Gifford, E. V., Follette, V. M., & Strosahl, K. (1996). Experiential avoidance and behavioral disorders: A functional dimensional approach to diagnosis and treatment. Journal of consulting and clinical psychology.

Foody, M., Barnes-Holmes, Y., Barnes-Holmes, D., Törneke, N., Luciano, C., Stewart, I., & McEnteggart, C. (2014). RFT for clinical use: The example of metaphor. Journal of Contextual Behavioral Science, 3(4), 305-313.

Orsillo, S. M., & Roemer, L. (2007). Acceptance-and mindfulness-based approaches to anxiety: Conceptualization and treatment. Springer Science & Business Media.


هناك تعليقان (2):