الخميس، 25 أكتوبر 2018

أعيننا اللامرئية




   "لو كانت المشاعر لغةً، فهي بالتأكيد ليست لغةً تفهم بسهولة"

 من بين كل الظواهر النفسية  تعد المشاعر الأكثر غموضاً و إبهاراً للعقول ، لأن جوهر المشاعر هو شيءٌ فردي وشخصي بالكامل، تجربة داخلية يصعب علينا -أحياناً- فهمها ، ناهيك عن القدرة على صياغتها في كلمات ومشاركتها مع الآخرين. المشاعر تجربة ذاتية، فما أعنيه بقولي "أنا حزينة" يختلف عمّا قد يفهمه شخص آخر، فشعورك أياً كان لا يمكن لأحدٍ تقديره -تمامًا- كما هو في وجدانك. إن ما نفعله حين ندعي فهم مشاعر الآخر بمعاييرنا التي استنتجناها من خبراتنا الخاصة يشبه ما يفعله مترجم قوقل بالنصوص التي يترجمها، فإذا لم يبذل المترجم جهداً في التعمق في النص وفهمه في إطار ثقافة كاتبه الأصلي لن تكون الترجمة دقيقة، كذلك هو الأمر بالنسبة للغة المشاعر .
و من السمات المميزة للمشاعر-والتي تثير اهتمامًا كبيرًا لدى المعالجين النفسيين بشكلٍ خاص- هو أنها تتقن الاختباء جيداً، فممن الممكن أن يكون لدى المرء مشاعر غائبة عن إدراكه ؛ وكل مايدركه منها هو آثارها الفسيولوجية فقط و التي قد يعزوها خطأً إلى أسباب أخرى. هذه الأمور شكلت تياراً من التخبط والاضطراب في فهمنا لمشاعرنا، وتفهمنا لمشاعر الآخرين.

"لا شيء يمكنه أن يجعلنا أكثر حيوية ، و أكثر إنسانية من مشاعرنا، و لاشيء يؤذينا كذلك أكثر منها. ومع ذلك فإن العديد من الناس يعبرون الحياة دون إيلاء مشاعرهم الاعتبار الذي تستحقه" Neel Burton
لأن حياتنا تتمحور حول بماذا نشعر؟ وكيف نريد أن نشعر؟ فإن فهم التجربة العاطفية من أهم مقومات الصحة النفسية، حين نفهم ماهي المشاعر؟ وماهي وظيفتها في حياتنا؟ سنكون قادرين على معايشة مشاعرنا الصعبة بتجلد أكبر، و مشاعرنا الجميلة بجرأة أكبر. ونجعلها تثري حياتنا بدلاً من تستعبدنا.
إن النضج العاطفي يعتمد على وعينا بمشاعرنا، والتعبير عنها، والقدرة على إدارتها. والمقصود بإدارة وتنظيم المشاعر هنا هو قبول وجودها بدون إصدار أحكام وتقييمات سلبية بحق أنفسنا مثل: " أنا شعرت بالغيرة إذن أنا انسان سيء"، كذلك يكون التنظيم بالاستجابة الملائمة التي تعمل على تهدئتها و ليس إثارتها، ولايمكن أن يكون التعامل مع المشاعر صحيح إذا لم يتضمن قبول وجودها أولاً، لأن رفضها يعني أن نحاول قمعها أو إيقافها وهي محاولة فاشلة بكل تأكيد، ولها عواقبها الوخيمة على صحتنا النفسية، لذلك لا أميل لبعض التعبيرات التي يستخدمها البعض عند الحديث عن المشاعر السلبية مثل: (التخلص .. السيطرة.. التحكم .. إزالة) لأن هذا الأمر هو بالتأكيد يفوق قدراتنا البشرية، يقول عالم الأعصاب أنطونيو داماسيو Antonio Damasio : "ربما نستطيع أن نوقف مشاعرنا إذا استطعنا منع أنفسنا من العطس". إن المشاعر المؤلمة والصعبة لها مسارها الذي لابد وأن تعبره، وكل ماعلينا فعله هو محاولة الحفاظ على ثباتنا وتماسكنا خلال هذا العبور، وهذا لايحدث إلا بالوعي والقبول، فمرورنا بتجربة عاطفية غير مفهومة أو مرفوضة يبقينا عالقين في تلك المرحلة الزمنية، وإذا لم نسمح لمشاعرنا بأن تُظهر نفسها بوضوح وتنضج لن نستطيع تجاوزها، وسنكرر أنفسنا في حلقةٍ مفرغة.

 

 لماذا نشعر؟
"الوظيفة الرئيسية للعديد من المشاعر هي تحقيق التأثير في العلاقات بين الأشخاص" Parkinson
حاول العلم تخطي عتبة الغموض التي تمنعنا من الوصول لفهم منظم حول المشاعر، و أصبحت موضوعات الخبرة العاطفية والوعي العاطفي في الآونة الأخيرة ذات اهتمام تجريبي / نظري واسع في العلوم المعرفية والعصبية. وقد نجح العلماء بتسليط الضوء على مشاعرنا الانسانية ، وفتحوا  لنا فضاءات شاسعة من الفهم. فهناك من حاول دراسة الآليات العصبية العاطفية ، ومناطق الدماغ التي تظهر تفاعل ونشاط مرتبط بالمشاعر وهو ما يعرف بعلم الأعصاب العاطفي "affective neuroscience"، وهناك من حاول فهم العاطفة من "الخارج" عن طريق فحص العمليات العاطفية في سياق العلاقات، الجماعات، الثقافات، مما يعطيها معنى ويشكل في أذهاننا الطرق التي تتكشف بها.
وكان أكثر ماأثار اهتمامي هو دور المشاعر في الجزء الأهم من حياتنا وهو العلاقات ، يشير علم الأعصاب  إلى أننا نصبح مانحن عليه بسبب علاقاتنا، فأدمغتنا تتغير بمرور الوقت بناءاً على العلاقات والتجارب الجديدة. نحن كائنات اجتماعية أكثر مما نتصور، وبالنظر إلى الدور الذي تلعبه المشاعر في تشكيل هذه العلاقات نجدها أمراً في غاية الأهمية، وقد قرأت وصفاً دقيقاً لهذا الدور وهو أن المشاعر بالنسبة للعلاقات هي بمثابة المفاصل بالنسبة للعظام، وهي كذلك، فبدونها سيصاب تواصلنا بالجمود والغموض والرتابة،  إن وجود مشاعر: مثل الحب والغضب والخجل والغيرة والخوف والكره هو ما يشكل المرونة في علاقاتنا، هو ما يجعلنا قادرين على وضع أولوياتنا، هو ما يجعلنا نفي بالتزاماتنا نحو عائلتنا وأصدقائنا، ونشكل دفاعاتنا ضد كل من يشكل خطر علينا. و ذلك هو ما يجعل لعلاقاتنا قيمة ومعنى.
علم البيولوجيا العصبية بين الأشخاص Interpersonal neurobiolgy هو مجال متعدد التخصصات يجمع العديد من العلوم بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر الأنثروبولوجيا ، علم الأحياء ، علم اللغة ، الرياضيات ، الفيزياء ، وعلم النفس يهدف لإيجاد تعريف للعقل البشري، وما يحتاجه العقل من أجل تحقيق أقصى قدر من الصحة. ويهتم  بدراسة كيفية تأثير العلاقات على الجسد والدماغ، يقدم لنا هذا العلم رأي مثير للاهتمام حول وظيفة المشاعر،وهو أن المشاعر تمثل "المؤشر"  لدرجة التكامل بين كلٍ من (الجسد ،العقل، والعلاقات) بمعنى أن العاطفة مثل غرفة المراقبة المليئة بالكاميرات والأضواء التي تمكنك من رؤية مدى جودة  عمل كل من ( جسدك - عقلك -علاقاتك) وهل هناك تكامل في العمل بينهم أم لا، ونظام المراقبة هذا يعمل من تلقاء نفسه. على سبيل المثال: إذا كان عقلك يولد رغبة قوية ومستمرة في الانعزال عن الآخرين، قد يكون هناك درجة سيئة من التكامل بين ما يريده عقلك وما تحتاجه علاقاتك. ونتيجةً لذلك، فإن المؤشر العاطفي سيقوم بإرسال علامة التحذير في شكل شعورٍ بالوحشة والوحدة.
وقد أورد باركنسون ، فيشر و مانستيد Parkinson, Fischer & Manstead في كتاب المشاعر في سياق العلاقات الاجتماعية"Emotion in social relations" ثلاثة أنواع من العمليات التي يؤثر ويتأثر الآخرون من خلالها  بمشاعرنا:
الأولى (العدوى العاطفية) : الانتقال المباشر لعاطفة من شخص إلى آخر عن طريق التعبيرات الجسدية الظاهرة مثل: الابتسامة، مما يعني أن تأثير المشاعر قد ينتشر مثل الفيروس بين الأشخاص.
الثانية: (التقييم الاجتماعي)، ينظر إلى المشاعر على أنها تعكس  تقييم الآخرين وتفسيرهم الوضع الحالي، فالمعلومات التي تنقلها لنا ردود أفعال الآخرين تساعدنا على تحديد الدلالة العاطفية. على سبيل المثال ، معرفتنا بأن النكتة مضحكة يعتمد جزئيًا على ردود أفعال الآخرين على محتواها .
الثالثة (التحفيز):مشاعر الآخرين لديها خصائص تحفيزية متأصلة تنظم سلوكنا وتحفزه بشكل مباشر، على سبيل المثال الاعجاب، والتهنئة ، والعتاب تعمل بمثابة مكافآت أو عقوبات على مانقوم به .
هذه العمليات لا تستبعد بعضها بعضا. بمعنى أنه يمكنك التقاط ابتسامة شخص ما  لتشعر بالسعادة أنت أيضاً بسبب العدوى العاطفية، وتقيم الوضع بأنه ايجابي باعتبار أن رد فعله العاطفي هو نتيجة تقييمه للوضع الحالي ، وتكون أيضا هذه الابتسامة دافع لتكرار الفعل الذي أثار ابتسامته بدايةً.
يمكننا تصور أن هذا الدور الجوهري للمشاعر في عملية التفاعل والتواصل بين البشر هو جانب واحد فقط ، وربما لايتسع المجال هنا لذكر النظريات العلمية ووجهات النظر الفلسفية التي تزيد من عمق فهمنا للجانب العاطفي من حياتنا، هذا الفهم الذي إذا ما أخذناه بعين الاعتبار سيشكل فرقاً في التعاطي مع مشاعرنا، بما يحسن من صحتنا ورفاهيتنا النفسية.
المشاعر منارات لقيمنا ..
كل إنسان فريد من نوعه،  فكما أننا نميز بعضنا بملامح الوجه، كذلك مشاعرنا واستجاباتنا لها تشكل ملامحنا الداخلية التي تميزنا عن بعضنا البعض. إن مشاعرنا الايجابية والسلبية -على حد سواء- لها قيمتها وأهميتها، وليست مجرد مشوش ومعكر لصفو عقولنا. ربما، لطبيعة مجتمعنا وثقافتنا لا نتقبل العديد من هذه المشاعر، ولم نعتدْ  كثيراً على إظهارها والتعبير عنها ، وكثيراً ما ننظر إليها بوصفها مشكلة، لذلك نواجهها بالقمع أو التجاهل، وبذلك نفقد جزءاً مهماً من عملية النضج والنمو العاطفي، إن المشاعر التي ننظر إليها على أنها سيئة ومُعيبة لا تستنقص أبداً من مكانتنا أو انسانيتنا ، لأن مشاعرنا في النهاية ليست اختياراتنا، نحن فقط نختارالطريقة التي نستجيب بها لتلك المشاعر ، ربما لو أدركنا ذلك الفرق المهم جيداً سنعطي أنفسنا مساحةً مستقلة للشعور منفصلة تماماً عن حكمنا على أنفسنا بالنقص أو الفشل أو الضعف، وسنسمح لأنفسنا بأن نشعر بالإحباط دون أن نركن للاستسلام، ونغضب دون أن نلجأ للعدوان، ونحزن دون أن نسخط على الحياة ونعترض على أقدار الله.
كتب أوتالي Oatley في كتابه المشاعر: تاريخ موجز"Emotions: A brief history" "إن المشاعر كانت -تقريباُ- أول حدث في بداية الوجود البشري، حين أكل أبوينا آدم وحواء-عليهما السلام- من ثمر الشجرة المحرمة، في تلك اللحظة، حين أصبحا واعيين للخير والشر، وواعيين بذواتهما شعرا بالخزي والحزن، ثم بالذنب والندم." ومن هناك بدأت رحلة الإنسان في البحث عن الحقيقة والخير، وبدون وجود تلك المشاعر لا أتصور أنه يمكن لإنسان أن يستدل طريق الصواب.
ختاماً، من المفيد النظر إلى مشاعرنا كمؤشرات لدرجة أهمية وإلحاح المشاكل التي تعترضنا، و كدلالات على قيمنا ومبادئنا، وكجزء مهم ومؤثر في حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا.
إن المشاعر هبة أودعها الله في أنفسنا، لتكون أعيننا اللامرئية التي تمكننا من رؤية الكثير من الأمور.



المصادر:
Parkinson, B., Fischer, A. H., & Manstead, A. S. (2005). Emotion in social relations: Cultural, group, and interpersonal processes. Psychology Press.‏

Oatley, K. (2008). Emotions: A brief history. John Wiley & Sons.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق