الخميس، 20 سبتمبر 2018

لماذا تعد مرحلة الطفولة مهمة وحاسمة للصحة النفسية؟



"الخلايا العصبية هي المرآة التي تعكس مدى قوة وعمق الروابط التي تربطنا بالآخرين" G Rizzolatti, C Sinigaglia

 

     نميل لتصورالاختلافات بيننا كبشر بأنها جينية في الأصل ، صعب أن نتخلص من هذه الفكرة الراسخة لدينا بأننا نولد بحمض نووي يحدد كل ما سنصبح عليه مستقبلاً!
لم نعتد كثيراً التفكير في الكيفية التي تؤثر بها حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا العاطفية المبكرة على أدمغتنا ونظامنا العصبي، وكيف تشكل الخبرات التي عايشناها في وقت سابق استجاباتنا الفسيولوجية والعاطفية للأحداث ، وطريقة تفكيرنا ونظرتنا للأمور .
في الواقع، الرعاية المبكرة التي يتلقاها الطفل تُشكل الجهاز العصبي، وتحدد كيف سيفسر الطفل الإجهاد والضغوط وكيف سيرد عليها، الطفولة هي مرحلة مركزية في بناء العادات التنظيمية، الدماغ والجهاز العصبي في هذه المرحلة مرن ، هش ، غير ناضج، وغير مكتمل النمو، لايزال الدماغ فيها قيد الإنشاء وهذا ما يجعل للأحداث البسيطة -التي قد نراها نحن الكبار هامشية- أثراً كبيراً على مصير الطفل.
على سبيل المثال: حين يتعرض الطفل لموقف ضاغط يؤدي إلى ارتفاع الكورتيزول فإنه لا يتمكن من إدارة هذه الحالة بنفسه، إذا لم يجد استجابة تطمينية مباشرةً من والديه فهو لن يهدأ وسيبقى الكورتيزول في حالة ارتفاع، وتكرر مثل هذا الموقف قد يغير من المستويات الطبيعية للكورتيزول في الجسم. قياساً على ذلك تأمل مختلف الحالات الانفعالية التي إن فشل الوالدين مراراُ وتكراراً في تنظيمها وإدارتها بشكل ملائم ستحدث اختلالات هرمونية لدى الطفل.
إن التفاعلات المبكرة تشكل قاعدة الأساس للأنظمة الداخلية التي تصبح أكثر ثباتاً و استقراراً كلما تقدم الإنسان في العمر، وعلى الرغم من أن الإنسان يبقى قادراً على التغيير وخلق أنماط عادات جديدة ،إلا أن الأمر يصبح أكثر صعوبة حين يكتمل نمو ونضج دماغ الإنسان .
لقد وصفت هذه الخبرات و التفاعلات المبكرة من قبل مختلف العلماء بمسميات مختلفة.
فهي عند دانيال ستيرن(1985)  "تمثيلات التفاعلات المعممة"
وعند جون بولبي(1969) "نماذج العمل الداخلية"
وعند ويلما بوتشي(1997).  "المخططات العاطفة"
وعند روبرت كليمان (1991) " الذاكرة الإجرائية"
 مهما كانت المسميات والنظريات مختلفة إلا أن الجميع يتفق على أن توقعاتنا، سلوكنا، واستجاباتنا العاطفية يتم نقشها في أدمغتنا في حياتنا المبكرة كأطفال، في تلك المرحلة التي كنا نبدو فيها ظاهرياً بقمة البساطة بينما كانت كل خلية داخل أجسادنا تعمل بشكل معقد في محاولة لفهم الحياة وتفسيرها.
 إن التكامل الذي حصل بين علم النفس الاجتماعي وعلم الأعصاب زودنا بمصطلح مهم وهو"الدماغ الاجتماعي" وهو يشير إلى شبكة مناطق الدماغ التي تشارك في
فهم الآخرين، والتعاطف، الحساسية للإشارات الاجتماعية والعاطفية ،وهو الذي يطوره كل طفل من تجاربه الخاصة مع الناس. إنه يعتمد كلياً على التجارب، و الأمر الذي يجب ألا نغفل عنه أبداً هو أن هناك منطقة من الدماغ  
orbitofrontal cortex "القشرة المخية الجبهية " - المسؤولة عن دمج المعلومات القادمة من البيئة الخارجية إلى الحالة الداخلية للفرد- تتطور بالكامل تقريبا بعد الولادة، ولا تبدأ بالنضج حتى مرحلة بداية المشي. وقد أشار الباحثون إلى  السبب التطوري لذلك : بحيث يمكن قولبة كل إنسان جديد ليناسب البيئة التي يعيش فيها و يتكيف مع أي ثقافة وظروف يجد نفسه ملزماً بها.
يقول الطبيب بيتر مدوَّر Peter Medawar " الجينات الوراثية تقترح، لكن البيئة التي ينمو فيها الانسان هي التي تقرر"
وهو الأمر الذي أثبتته العلوم الحديثة حيث الجينات تزودنا بمكونات أولية مختلفة ، وفي مرحلة الطفولة يتم تحديد هذه الجينات وتشكيل الروابط العصبية. وقد قرأت تشبيهاً لأحدهم شبه فيه دورالبيئة بالطبخ فأياً كانت المكونات فإن طريقة الطبخ هي المحدد الأكبر لجودة الطبخة.النظر إلى الاضطرابات النفسية من هذا الجانب التكاملي قد يكون مكلف من عدة نواحي مقارنة بالنظر إليها "كخلل كيميائي في الدماغ" لا علاقة له بطبيعة الحياة التي يعيشها الفرد.
وأنا هنا لست بصدد الخوض في العوامل المسببة للاضطرابات النفسية أو علاجها ، وقد كتب الدكتور ياسر الدباغ مقالاً مهماً حول ما يسمى بنظرية عدم التوازن الكيميائي يمكن الاطلاع عليه هنا
إن فهم هذا التداخل بين التفاعلات المبكرة والعمليات البيولوجية وتأثيرهما المشترك  يساعدنا في البداية على استيعاب أن الإنسان ليس آلة يمكن تفكيكه إلى أجزاء، ومن ثم استبدال الجزء المتعطل بآخر، كما لو أن كل جزء يعمل بمعزل عن الآخر، وأن الإنسان يجب أن يُفهم كمجموعة نظم بيولوجية واجتماعية ونفسية مترابطة ومعقدة وتؤثر في بعضها البعض، كما أنه يساعدنا على فهم الآلية المعقدة التي يعمل بها العلاج النفسي، وهنا أذكر عبارة في مقال على موقع علم النفس اليوم psychology today للدكتور روبرت بيرزين Robert Berezin  نصها الآتي :" يعلمنا علم الأعصاب أن العلاج النفسي ليس فقط علاجاً بيولوجياً بحتاً ، بل إنه العلاج البيولوجي الحقيقي الوحيد، فهو يعالج مشكلات الدماغ تماماً بنفس الطرق التي تطورت بها في المقام الأول". العلاج النفسي يعطينا ما يلزم من الأدوات لنعيد تشكيل رؤيتنا لخبراتنا المؤلمة، وذلك بمواجهتها من جديد في سياق الجلسات العلاجية لتعطيل تعيينات الدماغ المضطربة القديمة المرتبطة بها، وإعادة بناء أخرى". وهو الأمر الذي شبهه بيرزين بإعادة صياغة مسرحية الصدمة التي تُنتج المعاناة والأعراض، وكتابة مسرحية جديدة في سياق العلاقة الآمنة التي يوفرها المعالج النفسي.
أخيراً، من المهم ألا ننسى بأن النظم البيولوجية التي تشارك في إدارة الحياة العاطفية تخضع للنفوذ الاجتماعي والنفسي، وأن دماغ الانسان يتطور ويعمل بشكل أفضل أو أسوأ اعتمادًا على طبيعة التجارب الاجتماعية المبكرة. إن مرحلة الطفولة تحمل مفاتيح الاضطرابات النفسية لذا فإن الحرص على تداركها ألزم بالضرورة من البحث عن علاج لها ، ويكون ذلك بتوفير بيئة أكثر دعماً للوالدين وتوعيتهم بطرق الرعاية النفسية الصحيحة لأطفالهم، والتي تساهم بتزويد الأطفال الصغار بالمهارات التنظيمية، والثقة العاطفية التي يحتاجون إليها.

المصادر:
Berezin, Robert (2017) Psychotherapy Is THE Biological Treatment. Retrieved from:
https://www.psychologytoday.com/us/blog/the-theater-the- brain/201712/psychotherapy-is-the-biological-treatment

Cozolino, L. (2017). The neuroscience of psychotherapy: Healing the social brain. WW Norton & Company.

Gerhardt, S. (2014). Why love matters: How affection shapes a baby's brain. Routledge.



هناك 6 تعليقات:

  1. سلِمت يمينك يا زهرة

    ردحذف
  2. مقال رااائع جدا يا زهره تسلم ايدك والله

    ردحذف
  3. تسلمي علي الطرح الجميل موضوع جاذب

    ردحذف
  4. بداية موفقة وننتظر المزيد من عطائك

    ردحذف
  5. طيب ماهي البيئة السليمة الي تناسب الطفل ؟

    ردحذف
  6. جزاك الله خير على الطرح

    ردحذف