الاثنين، 9 ديسمبر 2019

آن الأوان ليصبح علم النفس مستقلاً، ليس تابعاً


العلاج النفسي ليس علاجًا طبيًا.


من أقوى البُنى النظرية التي أعرفها ما يُسمى بـ التابعية/ supervenience ، يساعدنا هذا البناء الفلسفي على فهم السبب في كون المعرفة في أحد مستويات التحليل غير ملائمة في مستوى آخر.
على سبيل المثال: عندما تشاهد فيلمًا على الشاشة، فإنك تشاهد مصفوفة من البِكْسِل pixel التي يعتمد وجود الفلم على وجودها بنسبة 100% ، ولا يمكن أن يوجد بدونها. لكنَّ معرفة هذه البيكسلات لا علاقة لها بفهم الفلم.  يمكن أن نعرف كل ما يمكن معرفته عن البكسلات، ومع ذلك لايكون لدينا أدنى مفهوم عن تفاصيل الفلم.
الفيلم تابع لهذه البكسلات. وبالمثل، العقل تابعٌ للدماغ.  يعتمد العقل على الدماغ، ولا يمكن أن يوجد بمعزل عنه. لكن معرفة الدماغ ليست معرفة الحياة العقلية.  إنها مستويات مختلفة تماماً من التحليل تتطلبُ مفاهيماً وأساليباً مختلفة.
افترض المعهد الوطني للصحة النفسية (NIMH) تحت إشراف توم إنسل Tom Insel، أن مشاكل الصحة النفسية هي "أمراض الدماغ" وأن البيولوجيا العصبية ستفتح الآفاق لعلاج جميع أنواع المعاناة النفسية والعاطفية، إلا أنَّ ذلك فشل فشلاً ذريعاً.
يقول إنسل Insel: "لقد أمضيت 13 عامًا في المعهد الوطني للصحة النفسية NIMH وأنا أدعم علم الأعصاب، وعندما انظر إلى الخلف، أُدرِك أنه بينما اعتقدت بأنَّي نجحت في الحصول على الكثير من الأوراق العلمية الرائعة، التي نشرها علماء رائعون، بتكاليف كبيرة إلى حدٍ ما - أعتقد 20 مليار دولار - إلا أن ذلك لم يشكل فارقاً في الحد من الانتحار ، والحد من الإقامة في المستشفيات، وتحسين التعافي لعشرات الملايين من الأشخاص الذين يعانون من أمراض نفسية. وأنا أُحمّل نفسي المسؤولية عن ذلك ".
لا، لم يصنع كل ذلك الفرق. إن مبلغ 20 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب لم يُحسِّن الصحة النفسية، ولاحتى لشخصٍ واحد، على الرغم من الوعود التي لا نهاية لها، لا يوجد أي اختبارٍ بيولوجي لأي حالةٍ نفسية. لا توجد علاجات جديدة، أو علاجات أفضل مما هو موجود مسبقاً.
علم الأعصاب هو أحد مستويات التحليل، والحياة النفسية مستوى آخر مختلف.  يجب دراسة الأفكار والمشاعر على مستوى التحليل الخاص بها.  الدماغ هو موضوع علم الأعصاب، والحياة النفسية هي موضوع علم النفس.  هناك بالطبع مناطق تقاطع وتداخل، لكنْ لا يمكن لأي منهما أن يحّلَ محل الآخر.
راهن NIMH على الاختزال البيولوجي الساذج - بافتراض أن البيولوجيا العصبية ستُجيب على الأسئلة المهمة، على المستويين البيولوجي والنفسي. لكنَّ هذا الافتراض لم تدعمه النتائج العلمية. لقد كان بمثابة الإدعاء بعدم الحاجة لدراسات الأفلام، لأن هناك مهندسون يعملون على الجوانب التقنية لعرض هذه الأفلام.
عشرون مليار سبب تقول لنا أنهم كانوا مخطئين.
الدرس المستفاد هو أن علم النفس يجب أن يشق الطريق إلى العلاجات النفسية باستخدام المفاهيم والأساليب النفسية.  يجب ألّا يلعب دور التابع للطب، أو يُقلِد مفاهيمه وأساليبه.
عندما يسعى علم النفس إلى أن يكون "مثل" الطب أو مثل أي مجالٍ آخر. فإنه سيجدُ طريقاً مسدوداً فكرياً وعلمياً وسريرياً. علم النفس لا ينبغي أن يكون مثل الطب.  يجب أن يكون علم النفس مثل علم النفس. يساهم الأخصائيون النفسيون في فهم ومعالجة المعاناة النفسية من خلال كونهم أخصائيين نفسيين من الدرجة الأولى، و ذلك ما لن يتحقق في حال كان طموحهم أن يكونوا أطباء من الدرجة الثانية.
هذا هو أحد الأسباب التي تجعل من المبادئ التوجيهية الجديدة للممارسة السريرية الصادرة عن الجمعية الأمريكية لعلم النفس -والتي تقيّم وتوصي بالعلاج النفسي بناءً على معايير معهد الطب (IOM)- خطأً فادحاً. هذه المعايير صُممت لتقييم التدخلات البيولوجية مثل الدواء. العلاج النفسي ليس مثل الدواء.
تقليد الأساليب البحثية للأدوية الطبية  لا يرفع شأن علم النفس.  لا ينبغي لنا تضليل الناس بإيهامهم بأن المعاناة النفسية تشبه المرض الطبي، أو أن أنواع العلاج النفسي المختلفة تشبه الأدوية الطبية المختلفة.  هذه الافتراضات خاطئة على كافة المستويات. العلاج النفسي ليس مثل الدواء ، العلاج النفسي هو مثل العلاج النفسي.  وعلينا أن نساعد الجمهور وصانعي السياسات وزملائنا المتخصصين في الرعاية الصحية على فهم معنى العلاج الجيد - لأنهم لا يعرفون.
يجب أن ندرس نتائج العلاج النفسي باستخدام مفاهيمنا وأساليبنا النفسية.  يجب علينا دراسة كيف يتغير الأشخاص وكيف تتغير حياتهم ، وليس فئات التشخيص من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM).  يجب علينا دراسة النتائج التي تهم المرضى والمعالجين الذين يعالجونهم.  العلاج النفسي الحقيقي لا يتعلق بتشخيصات DSM ولم يكن كذلك.  لا يمكن اختزال نتائج العلاج النفسي الحقيقية في قوائم أعراض الـ DSM.  لا يوجد أي عذرٍ للتخلي عن العلاج النفسي عن طريق إجباره على الظهور بصِبغَةٍ طبية.
علم النفس له مفاهيمه وأساليبه الخاصة.  أسس ويليام فونت Wilhelm Wundt أول معمل تجريبي لعلم النفس في عام 1879 ، حيث درس الحياة النفسية بشكلٍ علمي، في وقتٍ كانت فيه إراقة الدم Bloodletting ممارسة طبية شائعة.
مرة واحدة فقط، هل يمكن لعلم النفس أن يقود، بدلاً من أن يتبع؟  مرة واحدة فقط ، هل يمكن لمنظماتنا المهنية أن تتوقف عن وضع علم النفس كخادم للطب، ومواطن من الدرجة الثانية؟  مرة واحدة فقط، هل يمكن لمنظماتنا المهنية أن تتوقف عن الانحناء والتذلل والتقليل من قيمة علم النفس بمحاولة حشر وتد علم النفس المستدير في الفتحة المربعة لنظام الرعاية الصحية المكسور؟
هل يمكن لعلم النفس أن يحدد بنفسه ما يمكن أن يعالجه، وكيف يتعامل معه، بدلاً من إجبار أنفسنا على الدخول في الأماكن الخاطئة التي حددها لنا الباحثون الطبيون، وأنظمة الرعاية الصحية، وشركات التأمين الصحي؟
هل يمكننا المساهمة في العالم كأخصائيين نفسيين يستخدمون المفاهيم والأساليب النفسية؟ هل يمكن أن نفخر بكوننا أخصائيين نفسيين مرة أخرى؟

نشر هذا المقال على موقع ‏Psychology Today

وقد تُرجِم إلى العربية بإذن من كاتبه د. جوناثان شيدلر JonathanShedler

هناك تعليقان (2):

  1. رائع وأؤيد بشدة إن علم النفس هو القائد يجب أن يكون وليس ما يسمى بالطب النفسي الذي يجب أن يكون بالدرجة الثانية

    ردحذف
  2. بارك الله فيك وفي علمك ونفع بك يارب ،اتمنالك كل التوفيق ❤

    ردحذف