الجمعة، 29 مايو 2020

الحضور العقلي Mindfulness

"دائماً ما يرتد المرء إلى المسارات التي رسمها بنفسه، يصبح عالقاً في مساراته، وحين يقع أسيراً لقبضة المألوف، يدير ظهره للوجود، ويدور مراراً وتكراراً حول دائرته الخاصة. "  هايدغر



How to Choose a Type of Mindfulness Meditation



     عقل الإنسان هو عقدةُ ارتباطه بواقعه، إنْ انحلت تلك العقدة استحالَ وجوده، وإن ارتختْ مالَ حاله، وإن شُدَّت ضاق حاله. يمكننا القول أن شكل الحياةِ  ينبثقُ من تلك العقدة، فهل من سبيلٍ لجعل هذه العقدةُ موثوقةٌ بلا إفراطٍ ولا تفريط؟ 

برز خلال السبعينيات مفهوم الحضور العقلي mindfulness في العلوم النفسية، وظهرت تباعاً العديد من الدراسات والتجارب والتطبيقات ذات العلاقة. تعد إلين لانغرEllen Langer -أستاذة علم النفس بجامعة هارفرد- من أوائل المساهمين في إدماج مفهوم الحضور العقلي في علم النفس، تقول لانغر: "خلال السبعينيات، كانت هناك ثورة معرفية، وكان علماء النفس الاجتماعي منشغلين بالبحث في نظرية العزو، حيث كانت الشاغل المهيمن في ذلك الوقت، وحينها كنت أيضًا باحثةً في الإدراك الاجتماعي، وقد اقترحت أنه قبل أن نشغِل أنفسنا بماذا يفكر الناس، علينا أولاً أن نتساءل حول ما إذا كانوا يفكرون أم لا". 

كان هذا التساؤل نقطة انطلاقة لانغر في أبحاثها حول مفهوم الـ mindlessness وهو النقص في الانتباه القصدي/الموعّي. في هذه الحالة العقلية، يكون معظم مانفكر به مألوف وغير مفحوص، ومعظم ما نفعله تلقائي وانعكاسي. وهذا إن كان مفيداً في بعض السياقات، إلا أن له آثاراً سلبية -قد تكون مدمرة- في سياقاتٍ أخرى. حين يكون العقل أسيراً لحالة الوضع الافتراضي/الآلي هذه، يركن الشخص جانباً ملكاته العقلية المفيدة والضرورية للتعاطي مع الأمور، ويعمل ذهنياً وسلوكياً وفق افتراضاتٍ مسبقة لاتتواءم مع حاضره.

 قدّم لنا علم النفس الاجتماعي التجريبي الكثير من الأمثلة على الثمن الذي يمكن أن يدفعه الناس مقابل التعلم، التفكير، والتفاعل، الذي يحدث في هذا الإطار. وكردِ فعلٍ على هذه الاستنتاجات العلمية، بدأ الاهتمام البحثي بالمفهوم المناقض، وهو الحضور العقلي.

 فما هو؟ وماهي جذوره؟ وكيف وصل إلينا على بساط العلم كمهارة حياتية تعيننا على التعامل مع ضغوط الحياة، وكوسيلةٍ للتعافي النفسي؟


تعريف الحضور العقلي


" القدرة على المراقبة دون تقييم هي أعلى أشكال الذكاء"

جدو كريشنامورتي


دمج المفكر الهندي جدو كريشنامورتي في هذا الاقتباس القدرة على الحضور العقلي في بنية الذكاء، حتى أنّه قد وضعها أعلى الهرم، فهل يمكننا القول أن الحضور العقلي هو نوع من أنواع الذكاء؟ أو قدرة ذهنية؟ أو مهارة مكتسبة؟ قد يكون ذلك كله! 

تعريف الحضور العقلي بشكلٍ دقيق أمر صعب كحال الكثير من المفاهيم النفسية، فهو جزءٌ لا يتجزأ من لغز الوعي الذي لم يُحلْ بعد، وكل ما يمكنُ للعلمِ الوصول إليه، هو محاولة  تمييز حالة الوعي هذه، ووصف خصائصها بمصطلحات علمية، والتمكن -نسبياً- من تحديد وقياس تلك الخصائص، وتوضيح نتائج الممارسة المستمرة لها.

 هناك العديد من المقاربات التي حاولت تعريف الحضور العقلي بحسب منطلقاتها، نجد مثلاُ أن مفهوم إيلين لانغر للحضور العقلي ذو طابعٍ ذهني إدراكي في المقام الأول. فهي تُعرِفه كحالةٍ ذهنية نشطة تتميز بالانفتاح على ماهو جديد، والحساسية للسياقات المختلفة. بينما يركز تعريف جون كابات زين على الجانب التأملي من الحضور العقلي،ويُعرِفه على أنه الانتباه القصدي للحاضر لحظةً بلحظة، واتخاذ موقفٍ غير تقييمي على الأمور.

 قد يكون التعريف الأكثر شيوعاً للحضور العقلي هو : "حالة الانتباه الواعي للحاضر لحظةً بلحظة، مع الانفتاح على الخبرات الداخلية والخارجية، وقبولها بدون أحكامٍ تقييمية". الوصول إلى هذه الحالة يتطلب تآزر مجموعة معقدة من البُنى الذهنية، الحسية، والعاطفية، التي تعمل بشكل متبادل على معالجة متعددة المستويات. وهنا بعض التفصيل للعناصر الأساسية للحضور العقلي:

الوعي

الوعي هو إدراك للتجارب الداخلية مثل: "الأحاسيس الجسدية، الأفكار، العواطف". والأحداث الخارجية مثل: "المناظر، الروائح، والأصوات". 

الانتباه 

هو توجيه الانتباه بشكل متواصل إلى المنبهات الخارجية والداخلية. بمعنى؛ عندما يتجوّل العقل في الذكريات القديمة أو الخطط المستقبلية، تعيده إلى الهدف الأصلي "اللحظة الحالية". 

القبول غير التقييمي

القبول غير التقييمي يعني أن تسمح للأفكار والأحاسيس والمشاعر بالتواجد في عقلك دون الحكم عليها (جيد/سيئ ، مرغوب فيه/غير مرغوب فيه ، مهم/ تافه). القبول هو السماح لجميع التجارب: ممتعة، محايدة، ومؤلمة بأن تنشأ دون محاولة تغييرها أو السيطرة عليها أو تجنبها. ينطبق القبول على جميع التجارب مثل: الألم الحسي أو مشاعر الرفض. 

هذه العناصر الثلاثة موجودة في المفهوم العالمي للحضور العقلي، وتكاد تكون أساسية وثابتة في مختلف الثقافات، وإن كان هناك اختلاف في كيفية تضمينها في ممارسات الحضور العقلي.


الحضور العقلي من تقليد ديني إلى مفهوم علمي


 تستخدم العلوم الإنسانية مصادر عديدة لفهم التجربة الإنسانية منها: الفلسفة، الأدب، الدين، الفن، واللغة. ممارسات الحضور العقلي كانت موجودة في معظم الثقافات والديانات مع اختلاف مسمياتها، ولو نظرنا في تعاليم الإسلام سنجدُ حثاً ضمنياً على هذه الممارسات في عدد من الآيات الكريمة:

“أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ" الأنعام، آية 50. 

"لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" يوسف، آية 2.

 كما أن هناك حث صريح على ممارسة الحضور العقلي، متمثلاً في الأمر الإلهي بالخشوع في الصلاة، فالخشوع هو "استحضارٌ لعظمةِ الخالق" و "استشعارٌ للامتثال بين يديه" و "تمعنٌ وتدبرٌ في آياته" و"سكونُ الحواس تضرعاً له". وفي هذا كله يتجلى معنى الحضور العقلي في أسمى صورِه، ومختلف جوانبه: الذهنية، والانفعالية، والحسية. 

الحضور العقلي هو قدرة عقلية موجودة لدى جميع البشر، نستخدمها في حياتنا بدرجات متفاوتة، لايمكن أن تختص بديانة أو ثقافة دون أخرى، لأنها ببساطة ليست ديناً ولا فلسفةً ولا أيديولوجيا.

إلا أنها ارتبطت بشكلٍ خاص بالديانة البوذية، كونها المنبع الذي انتشرت منه هذه الممارسات إلى أنحاء العالم، فقد اهتمت البوذية بالحضور العقلي وضمنته في تقاليدها الدينية. وكما هو معروف فإن الفلسفات الشرقية -بشكلٍ عام- تركز على العالم الداخلي، وتتعمق في تفحص وتمحيص النفس البشرية، بينما يغيب ذلك التجلي للحياة الداخلية في الثقافات الغربية، في ظل طغيان الحياة المادية ومظاهرها هناك. كان ذلك أحد العوامل التي جذبت الكثير من الباحثين والمهتمين بالنفس الإنسانية لاستكشاف هذه الثقافات، والاستزادة من المعرفة في هذا الجانب، ومن هنا عُرِف وشاع مفهوم الحضور العقلي في الثقافة الغربية نقلاً عن الثقافة البوذية.

ولو نظرنا إلى تاريخ دخول هذا المفهوم إلى الأكاديميا، سنجد هناك مصدرين أو منظورين مختلفين  : 

  • المنظور التأملي المستند إلى الثقافات الشرقية، ومن أبرز علمائه جون كابات زين. 

  • المنظور الغربي النفسي الاجتماعي، ومن أبرز علمائه إلين لانغر.

يتشابه هذين المنظورين في أمور كثيرة، قد يكون الاختلاف الأبرز هو ممارسة التأمل، فالمنظور النفسي الإجتماعي لا يتطلب بالضرورة ممارسة التأمل، فمن الممكن أن يحدث التحول المأمول في الوعي بإيجاد طرق جديدة لرؤية الأمور، سواءً كانت هناك ممارسةً للتأمل أم لا . أبرز الأمور المشتركة بينهما  هي الفوائد المحتملة لممارسة الحضور العقلي، فمن المأمول أن ينتج عن ممارسة الحضور العقلي بإتباع طريقة أي منهما، أن يدرك المرء ارتباطه/تعلقه بالأمور(الأفكار، الافتراضات المسبقة، القواعد الموروثة، التوقعات، الرغبات). ومن ثمّ السماح لهذه الارتباطات بأن تكون في نطاق الوعي، ومحاولة رؤيتها من منظورٍ جديد أكثر مرونةً وانفتاحًا. 

 

الحضور العقلي كأسلوب حياة 

ممارسات الحضور العقلي في معظمها تهدف إلى التخفيف من المعاناة غير الضرورية، تتولد المعاناة النفسية -أوعلى الأقل تتفاقم- حين  يتم توظيف التصنيفات القديمة وغير المناسبة في الاستجابة لمواقف الحياة اليومية، مايحدث -غالباً- هو أننا تحت تأثير ضجيج أفكارنا من الداخل، والضغوط التي تشتتنا من الخارج، نختار المعالجة الذهنية الأقل جهداً، وهي أن نطبع على كل تجربةٍ معاشة صورةً لتجربةٍ سابقة مشابهة، هذا الأمر يوّلد الغفلة والاعتياد، يجعلنا نعيش بشكلٍ مكرر، يفقدنا إحساس الجِدّة الذي يُكسِب كل تجربةٍ معناها الخاص، والأسوء أننا بذلك نفقد قدرتنا على التفكير والاحساس والشعور والتصرف بشكلٍ مختلفٍ عما اعتدنا عليه سابقاً.

عقولنا تمتلك قدراتٍ تحليلية هائلة في محاولة تنظيم وتصنيف تجاربنا، تخطف منّا اللحظة التي نعيشها، وتأخذها بعيداً إلى دهاليز الماضي، أو فضاءات المستقبل. الإمساك باللحظة التي بين أيدينا هو الجوهر في ممارسات الحضور العقلي. كيف يمكن أن يحدث ذلك؟

 وصف أحد المعلمين البوذيين الحضور العقلي بهذه العبارة: " أن تَخبر العالم مباشرةً من خلال حواسك، وليس من خلال أفكارك وتصوراتك المسبقة" تطبيق ذلك لايمكن أن يكون بغاية البساطة، بل يتطلب جهداً وممارسةً مستمرة، هذه الممارسة لا يجب أن تتمحور حول القيام بطقوس محددة، لكن أن تكون دائماً حاضراً منسجماً في ممارسات روتينك اليومي المعتادة: التنفس، الأكل، الشرب، الصلاة، المشي، الاستحمام، التواصل مع الآخرين، اللعب مع الأطفال.

 قد تتعلم من أحدهم وصفة لطبخة معينة، لكن لاأحد يمكنه أن يخبرك كيف تستمتع بتذوقها، نفس الأمر فيما يخص ممارسة الحضور العقلي، قد تتعلم الأساسيات، لكنك ستمارسه وتتقنه وتدمجه في حياتك بطريقتك الخاصة. 

كنقطة أولية في غاية الأهمية، يجب أن ندرك أن الحضور العقلي لن يمنحنا سلاماً أبدياً وحياةً هانئة، إذا بدأنا في تعلمه وممارسته وفقاً لهذا التصور المسبق حول نتائجه، فإننا ننقض أحد أهم مبادئه، توقع النتائج وانتظارها مناقضٌ لما يُفترض أن تدرب عليه عقلك.

وفقاً لكابات زين فإن مصطلح "الممارسة" يُفهم بشكل أفضل كطريقةٍ للوجود،وطريقةٍ للرؤية، يقول: "الحضور العقلي ليس تمريناً لتهدأتنا عندما نجد أنفسنا متوترين. إنها طريقة للوجود، تستغرق جهودًا مستمرة لتطويرها وصقلها. ومن المفارقات أن الحضور العقلي هو عملٌ مدى الحياة، ولا وقتَ لهُ على الإطلاق، لأن مجاله دائمًا هو اللحظة الحالية في امتلائها. يمكن فهم هذا التناقض وتجسيده فقط بالممارسة اليومية".

هنا خطوتان قد  تمثل أساساً جيداً، يمكن أن تبني عليه نمط ممارستك الخاصة للحضور العقلي:

1- تخفيف الشراهة

الوصول إلى حالة ذهنية تمّكنك من أن تكون حاضراً يتطلب تخفيف الشراهة، أي شيء في حياتك يجلب لك احساساً فائقاً بالمتعة، وتجد فيه نوعاً من الإدمان، عليك أن تتعلم كخطوة أولى كيف تستغني عن الإشباع المفرط له. في كتابه عبادة المشاعر كتب ميشيل لكروا نصاً عميقاً في وصف مكمن خلل الحياة العاطفية للإنسان المعاصر من وجهة نظره، يقول فيه: " إنّهُ يهمل تلك المشاعر التي من الممكن أن تُثرِي روحه، ويُؤْثِر تلك التي تحقق لهُ نوعاً من الإهاجات المبتذلة، إنه يفضل مشاعر الصدمة التي تدخل في خانةِ الصراخ، على مشاعر التأمل التي تدخل في خانة التنهّد. يبحث دائماًعن المواقف التي تحرك فيه الأحاسيس القوية؛ لأنه بحاجةٍ إلى ارتجاجاتٍ تهزّه، ونشاطاتٍ هستيريةٍ تذهله، وانطباعاتٍ غير عادية تبهره. حياته العاطفية مبنية على الحركيّةِ، لا على الخشوع، على الفعل، لا على التأمل." 

الشراهة للمتع الحسية -إن صح التعبير- تحجب عن الإنسان نوعا آخر من المتع التي يولدها الاحساس بالسكون، تلك التي قد نجدها في روتين حياتنا العادية، وفي الطبيعة من حولنا، ولا نلقي لها بالًا. تخفيف مثل هذه الشراهة يتيح لعقولنا المجال لتدرك الأحاسيس العادية وتتأملها.


2- استكشاف التنفس

التنفس هوعمليةٌ نقوم بها منذ خلقنا بشكلٍ تلقائي، غالباً نراها من المسلمات التي لا حاجة لنا بتفحصها. إلا أن هذه العملية هي الأجدر بالاستكشاف، فهي التعبير الفيسيولوجي الذي يعكس في طريقته وتواتره وسرعته ما يحدث داخلك، هناك من يشبههُ بكاشفِ الزلازل، فمن خلاله يمكن أن ترصد أي تغيرٍ في حالتك الداخلية، لذلك كان الوعي بهذه العملية ومحاولة إدارتها هو مفتاح الوصول إلى حالة الحضور العقلي. فممارسة  تمارين التنفس التأملية تساعدك على الاتصال بجسدك وحواسك.


الحضور العقلي كاستراتيجية للتعامل مع ضغوط الحياة


طورَ الطبيب جون كابات زين في أواخر السبعينيات نموذج  "الحد من الضغوط القائم على الحضور العقلي"، وبذلك ساهم في إدخال ممارسات الحضور العقلي التأملي في الفكر الطبي السائد، وأظهر من خلال الدراسات الي أجريت على هذا النموذج أنه من خلال ممارسة الحضور العقلي يمكننا ملاحظة التحسن على صحتنا العقلية والبدنية.  يفترض جون كابات زين أن الوعي بالوقت الحاضر يعزز الحكم الفعال والمتجاوب للأحداث الجارية بطريقة تتعارض مع التفاعلات الذهنية والانفعالية والفسيولوجية المعتادة. لأن هذا التفاعل التلقائي هو المحفز للضغوط النفسية. ومن بعد هذا النموذج، ساهم العديد من الباحثين في تقصي الآلية التي من خلالها تؤثر ممارسات الحضور العقلي على تفاعلنا مع الضغوط النفسية، من هؤلاء الباحثين كانت أستاذة علم النفس بجامعة ستانفورد Alia Crum حيث لخصت في ثلاث خطوات كيفية توظيف الحضور العقلي في التعامل مع الضغوط بشكل صحي، سأوردها فيما يلي بتصرف.

الخطوة الأولى: الاعتراف بالضغوط

الخطوة الأولى لتغيير الاستجابة للضغوط هي ببساطة الاعتراف بها. ويشمل ذلك ملاحظة مشاعرك، أفكارك، والاستجابات السلوكية والفسيولوجية دون الحكم أو محاولة التغيير. كأن تسأل نفسك: ما الذي يضغط عليّ الآن؟ ماهي استجاباتي العاطفية؟ ما نوع الأفكار والمعتقدات التي تراودني؟ ما هي استجاباتي السلوكية والفسيولوجية؟ هل تفيدني هذه الاستجابات في التعامل مع الضغوط؟

هذا النوع من الحضور العقلي قد يساعدك على تحديد العلاقات السببية بين الأحداث الخارجية والاستجابات الداخلية والسلوكية لها. ويحد من المبالغة في التفاعل مع الضغوط، من خلال تهدئة الإدراك التلقائي لها. وقد أظهرت البحوث أن هذا الإقرار بخبرة الضغوط يمكن أن يحرك النشاط في الدماغ من المراكز التلقائية والتفاعلية إلى مناطق الوعي والمنطق، مما يسمح للشخص بأن يأخذ وقفة تفكير قبل التفاعل مع الضغوط بطريقة غير منطقية.

الخطوة الثانية:الترحيب بالضغوط

 قد تبدو هذه العقلية "الترحيبية" غير بديهية، لكنها ضرورية لعدة أسباب. أولاً، أنها الخطوة التي ستحركك نحو الضغوط، بدلًا من الابتعاد عنها، مما يجنبك عواقب "التجنب الخبروي" والذي غالبًا ما يؤدي إلى نتائج عكسيةٍ غير مرغوب فيها. لذلك، فعل الترحيب بالضغط في عقلك وحياتك يمكن أن يقلل من القلق، ويزيد من إحساسك بالسيطرة، سبب آخر للترحيب بضغوطك هو أنه غالباً ما تكون متأصلة في تجربة مرتبطة بقيمك والأمور التي تهمك. المال كمثال ليس مرهقًا بطبيعته، لكنّ السعي إليه يحرّض الضغوط عندما تواجه الصعوبات المتعلقة بتحقيق أهدافك المالية، لذاك من المهم أن تسأل نفسك: أي نوعٍ من الضغوط جدير بالترحيب به؟

الجمع بين الخطوتين الأولى والثانية يؤدي إلى موقف غيرحُكمي ومرحِّب تجاه الضغوط المرتبطة بقيمك وأهدافك (على سبيل المثال: "أشعر بالضغط لأنني أريد الحصول على وظيفة جيدة، تمكنني من توفير حياة كريمة لعائلتي".

 الخطوة الثالثة: عدم النظر إلى الضغوط على أنها عائق أمام أهدافك، بدلاً من ذلك استخدمها كموارد لتحقيقها.

تظهر الأبحاث أن القلق الناتج عن الضغوط  قد تطور للمساعدة في تحفيزك على إنجاز المهمة، من خلال زيادة طاقتك وزيادة تركيزك. فبدلاً من التركيز على التخلص من الضغط نفسه. والذي يمكن أن يخطفك إلى استراتيجيات غير منطقية تضعف من رفاهيتك النفسية ولا تحسنها. يمكنك الاعتراف بأن استجابتك للضغط قد تخدم قيمك. النظر في ظاهرة (نمو ما بعد الصدمة) قد يعطينا مثالا للعملية التي تؤدي من خلالها تجربة الضغوط والشدائد في النهاية إلى نتائج إيجابية، مثل: الرابطة الاجتماعية العميقة بعد شجار حاد مع الزوج، تقدير أكبر للحياة بعد أزمة صحية. تتضمن هذه الخطوة الثالثة  تبني فكرة أن الضغوط يمكن أن تعزز من رفاهيتك على المدى الطويل، هذا لا يعني أنك تتعامى عن حقيقة الإنهاك الذي يمكن أن يحدث نتيجةً لها، لكن تكون على وعيٍ بإمكانية تحقيق مستوى عالٍ من الرفاهية، ليس على الرغم من الضغوط ولكن ربما بسببها.


الحضور العقلي كوسيلة للتعافي النفسي ..

ممارسة الحضور العقلي توقظ دواخلنا بُعداً مهمأ من أبعادِ ذواتنا "بعد الذات المراقِبة"، بالوصول إلى هذا البعد نخلق مساحةً آمنة بين الذات والخبرات المعاشة، إدراك ذلك الفضاء بين الذات والموضوع، يساعد الشخص على أن يكون حاضرا عند تجربة مشاعر/ أفكار غير مريحة بدلاً من تجنبها، أو الانغماس الكامل فيها، و الميزة أن هذا الفضاء يجعل من احتمال التفكير قبل التفاعل التلقائي أمراً ممكناً، مما يؤدي إلى ردود أفعال أكثر حكمة. موقف الملاحظ هذا يعلم الأشخاص أن يشهدوا تجربتهم الداخلية بطريقةٍ أكثر موضوعيةً ، وأقل حكمًا ، وأقل تفاعلاً ، وهو مرتبطٌ بتحسين الرفاهية النفسية، و مواجهة الضغوط .

معظم الاضطرابات النفسية تنطوي على مشكلاتٍ أساسية مثل: عدم المرونة، قلة الاستبصار، أو ضيق المنظور. الأبحاث الحديثة في العلوم النفسية وعلم الأعصاب تشير إلى أن التدريب على الحضور العقلي يمكن أن يستهدف مجموعة متنوعة من هذه العمليات العقلية الكامنة خلف نشوء/تفاقم العديد من الاضطرابات النفسية. هذه العمليات المشتركة مثل: الاجترار والتجنب الخبروي، متورطة في العديد من الاضطرابات مثل: القلق، الاكتئاب، اضطراب ضغط مابعد الصدمة، الإدمان، اضطرابات النوم، اضطرابات الأكل، وقد صاغ هذه العمليات العقلية كلا من هارفي و واتكينز ومانسيل(Harvey، Watkins، Mansell، & Shafran، 2004)  في ما يعرف بالنموذج العابر للتشخيصات transdiagnostic approach ، هذه الحركة الجديدة تتجه نحو التركيز على طرق العلاج التي تستهدف العمليات النفسية المرضيّة، التي يبدو أنها تكمن وراء العديد من الاضطرابات السريرية .

كما  كان للحضور العقلي تأثيراً على عدد من مناهج العلاج النفسي التي ظهرت في العقود الأخيرة، تنطلق هذه العلاجات من الاعتقاد بأن الحضور العقلي يعزز الصحة النفسية من خلال السماح بتدفق التجربة بدلاً من محاولة تثبيطها أو مقاومتها أو تشكيلها بطريقة معينة، كما أنه يساعد في تحرير تعريفاتنا لأنفسنا، التي تراكمت على مدى سنوات من العادة والتكيف، ليسمح لنا بأن نكون منفتحين لإعادة تشكيل أنفسنا من جديد في كل لحظة. 

هذه قائمة بالعلاجات النفسية التي تعتمد على/ تتضمن التدريب على الحضور العقلي

- الحد من الضغوط القائم على الحضور العقلي (Mindfulness-based stress reduction (MBSR

جون كابات زين 1990

- العلاج الذهني القائم على الحضور العقلي (mindfulness-based cognitive therapy (MBCT

سيغال وآخرون 2002

- التدريب على الوعي بالأكل القائم على الحضور العقلي

 MB ± EAT).mindfulness-based eating awareness training)

كريستلر وهاليت 1999

- منع الانتكاس القائم على الحضور العقلي (mindfulness-based relapse prevention (MBRP

ويتكويتز وآخرون 2005

- تعزيز العلاقة القائم على الحضور العقلي (MBRE)

mindfulness-based relationship enhancement (MBRE

كارسون وآخرون 2004

- العلاج السلوكي الجدلي ( dialectical behaviour therapy (DBT

لينهان 1993

- العلاج بالقبول والالتزام (acceptance and commitment therapy (ACT

هايز وآخرون 1999.


يمكن أن نعتبر الحضور العقلي طريقةً للعيش تقود إلى البصيرة والاتزان في التعامل مع أحداث الحياة. يخبرنا كل من العلم والخبرة أنه يمكن أن يجلب فوائد عديدة لصحتنا وعملنا وعلاقاتنا. لايزال المجال البحثي للحضور العقلي نامياً، ولازلنا بحاجة لنظرة علمية أكثر تمايزاً للأوجه المتعددة لهذا المفهوم وممارساته المختلفة. ربما يوفر لنا ذلك تقدم وتراكم الأبحاث في هذا المجال مستقبلاً. 



المصادر:


Ie, A., Ngnoumen, C. T., & Langer, E. J. (Eds.). (2014). The Wiley Blackwell handbook of mindfulness. John Wiley & Sons.‏

Harvey, A. G., Watkins, E., & Mansell, W. (2004). Cognitive behavioural processes across psychological disorders: A transdiagnostic approach to research and treatment. OUP Oxford.‏


Chiesa, A., & Malinowski, P. (2011). Mindfulness‐based approaches: are they all the same?. Journal of clinical psychology, 67(4), 404-424.‏




هناك 5 تعليقات:

  1. ماشاء الله تبارك الله.... مقال في غاية الروعة... يعطيك العافية

    ردحذف
  2. شكرا على جهودك مقال هام ومفيد وعميق

    ردحذف
  3. مقال مثير للأهتمام، شكرًا لك

    ردحذف
  4. ألف شكر لك على هذه الترجمة الجميلة والمتقنة ، المحتوى العربي بحاجة لمثل هذه الجهود وفقك الله وجزاك الله كل خير ...

    ردحذف