"نحنُ كائناتٌ اجتماعية، العلاقات والروابط
المقربةِ مع الاخرين هي بيئتنا، كما أنّ الماء هو بيئة الأسماك."
Sue
Johnson
نجدُ الحبَ مكتوباً في الشعر، النثر، والروايات. لكن، هل له مكاناً في العلم؟ الحب عصيٌّ على التعريف والقولبة، فهل يمكن للعلم أن يُشَّرِحه ويَشْرَحه لنا؟ أليست فكرة ًساحرة!
حاجتنا للعلاقات، أن نُحِب ونُحَب، هي حاجةٌ
أصيلةٌ في تكويننا البيولوجيّ والنفسيّ، لم تنجح أيُّ نظريةٍ نفسيةٍ في شرحِ هذه
الحاجة وتفصيلها، كما نجحت نظرية الارتباط/ التعلق Attachment
Theory .
تدرّجت هذه النظرية في تطوّرها، وعرّج باحثوها على مختلفِ العلاقات الإنسانية،
ابتداءً بالعلاقة الوالديّة بين الطفل الرضيع ومقدمي الرعاية، مروراً بعلاقات الأخوّة،
وعلاقات الصداقة، وانتهاءً بالعلاقات العاطفية بين الجنسين. تناولت هذه الأبحاث
ديناميات العلاقات: الألفة، المشاركة، الحميمية، الرعاية، والالتزام. وهي بمثابة خيوط
تشّكل معاً نسيجاً يمثّلُ الطريقة التي يتجّلَى بها الحبُ في العلاقات. قدمت لنا
البحوث النفسية المتراكمة في هذا المجال رؤىً معتبرةً -إن لم تكن إجابات- فيما
نتعطشُ لمعرفته حول ذواتنا وعلاقاتنا.
قد يساهمُ توظيف هذا العلم في تخفيف الغموض
والدراما التي تلوّن تجاربنا العلائقية، وتصبغها حيناً بصِبغة رومانسية، وحيناً بصِبغة
مأساوية، وتزعزع بهذا التذبذب استقراراها. وجود العلاقات الصحيّة المستقرّة في
حياتنا، هو عاملٌ مهم -إن لم يكن الأهم- في المحافظة على الصحة النفسية، من هذه
القناعة، ولدت فكرة كتابة هذا المقال الذي أتطلع لأنْ يكون مفيداً ومثرياً، أحاول من
خلاله طرح فهم علمي مبسّط للعلاقات الإنسانية بعين نظرية الارتباط. وهي بالتأكيد لا
تقدم فهماً شاملاً لكل جوانب العلاقات، إلا أنّها -في ظني- تأخذنا إلى أعمق الجذور،
تلك التي تغذي بسخاء المناطق العمياء في تفاعلاتنا.
بداية الاهتمام العلمي بالارتباط عند البالغين
على الرغم من أن نظرية
الارتباط ركزت في المقام الأول على فهم طبيعة العلاقة بين الرضيع ومقدم الرعاية،
إلا أن مؤسس النظرية الطبيب والمحلل النفسي جون بولبي Bowlby
John كان يعتقد ابتداءً
بأن عمليات الارتباط ممتدة خلال التجربة الإنسانية من "المهد إلى
اللحد". ولم يبحث الموضوع حتى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، عندما بدأ
الباحثون يأخذون على محمل الجد احتمال أن عمليات الارتباط قد تحدث في مرحلة البلوغ
بنمطٍ مشابه لما كنا عليه في طفولتنا. من أوائل الباحثين الذين استكشفوا أفكار Bowlby في سياق علاقات البالغين سيندي
هازان Cindy Hazan وفيليب شافير Phillip
Shaver في
مقالة نشرت لهما عام (1987) تستكشف
إمكانية أن الحب بين البالغين هو عملية ارتباط - عملية بيولوجية اجتماعية يتم من
خلالها تكوين رابطة عاطفية. تشبه
-إلى حدٍ كبير- الرابط الذي ينشأ بين الطفل ومقدم الرعاية. ومن بعدها انطلقت
الأبحاث النفسية في استكشاف طبيعة الارتباط عند البالغين.
لماذا نحتاج إلى العلاقات؟
نحن
نرتبط بالأخرين لنبقى على قيد الحياة؛ العلاقات تحقق لنا الأمان، الانتماء، الدعم،
والدفء. في سياق علاقة آمنة يمكننا أن نبني ذوات متماسكة ومستقلة، الارتباط بالآخر
والاستقلال هما وجهان لعملةٍ واحدة. مفهوم القاعدة الثابتة Secure Base يجسّد هذا الاحتياج الفطري للآخر، وفقاً لهذا المفهوم فإن القدرة على الانتقال
إلى عالم المخاطر، وتطوير الشعور بكفاءتنا واستقلاليتنا في مواجهتها، يعتمد
على وجود من يمكننا الاعتماد عليه في حال واجهنا الصعوبات. في عالمٍ غير مؤكد
كعالمنا، كان لابد من تجذّر هذا الاحتياج في طبيعتنا. الارتباط الآمن بالآخرين هو
المورد الذي يسمح لجنسنا بالبقاء والازدهار. ارتباطنا بالآخر ليس اختيار وإنما احتياج. الخوف
من رفض/ نبذ الآخرين لنا، والرغبة في القرب الجسدي والعاطفي من الآخرين المهمين في
حياتنا، ليست أمور خاضعة -تماماً- لمحض إرادتنا، فهي أمور تقع ضمن حاجات الارتباط المضّمنة
في اجهزتنا العصبية. ويتم تنشيطها تلقائياً عند التعرض لمواقف مؤلمة، أو مهددة، أو
خطيرة. تشرح أنماط الارتباط Attachment Styles الطرق
والاستراتيجيات المختلفة التي نتبعها في
التعامل مع مثل هذه المواقف لتهدئة/ إشباع احتياجاتنا العاطفية.
أنماط الارتباط عند البالغين
يعود
مفهوم أنماط الارتباط للمتخصصة في علم نفس النمو ماري اينسورث Mary Ainsworth،
التي ساهمت مساهمات جوهريّة في تطوير نظرية الارتباط، ومنها تجربة الموقف الغريب لملاحظة
أنماط الارتباط العاطفي بين الطفل ومقدم الرعاية. قبل أن أسرد هذه الأنماط، من المهم فهم كيفية تكوّنها
لدينا. يبدأ الطفل مبكراً بتكوين نماذج
العمل الداخلية Internal Working Models وهي عبارة عن
أطر ذهنية تشتمل على تمثيلات ذهنية لفهم العالم والذات والآخرين، تتكون بالاستناد على
العلاقة مع مقدم الرعاية الأساسي كأنموذج أولي لجميع العلاقات الاجتماعية
المستقبلية. على
سبيل المثال:
-
الطفل
الذي لديه مقدم رعاية مستجيب، يتشكل لديه تمثيلاً للذات على أنها مقبولة وجديرة
بالاهتمام. هذا الطفل يصبح لديه صورة إيجابية عن ذاته، ومستوى جيد من الثقة بالآخرين
-
الطفل
الذي لديه مقدم رعاية غير مستجيب، أو غير متسق، يتشكل لديه تمثيلا للذات على أنها
غير مقبولة وغير جديرة بالاهتمام، هذا الطفل يصبح لديه صورة سلبية عن الذات ومستوى
متدني من الثقة بالآخرين.
لاحقاً،
يتم تعميم هذه التمثيلات، وتؤثر بعمق على فكر المرء ومشاعره وسلوكه، ومن خلالها
يتحدد نمط ارتباطه بالآخرين؛ توقعاته، استجابته، تفاعلاته مع الآخرين. هنا سأعدد
هذه الأنماط لدى البالغين، وأبرز التمثيلات الذهنية التي تميّز كل نمط.
هذه الأنماط هي كالتالي:
-
القلِق/ المنشغل Anxious (also referred to as Preoccupied)
-
غير المنتظم / خائف-متجنب) Disorganized (also
referred to as Fearful-Avoidant
-
متجنب/ رافض
Avoidant (also referred to as Dismissive)
-
آمن Secure
1- نمط الارتباط
القلِق
بالنسبة
للبالغين الذين يميلون إلى نمط الارتباط القلق، فإن التفكير في الحياة بدون علاقات
(الوحدة)، يسبب مستويات عالية من القلق. لديهم صورة سلبية عن الذات، وصورة إيجابية
للآخرين (المبالغة في النظر إليهم كمصادر محتملة للدعم والحماية). غالبًا
ما يوجد لديهم حاجة ملحّة للحصول على الموافقة والدعم من الآخرين المهمين في حياتهم.
كما يوجد مستوى عالِ من الحساسية تجاه أي رسائل سلبية منهم. يوجد خوف قوي من الهجر،
ويمكن أن يؤدي غياب الدعم والحميمية إلى تفعيل استراتيجيات هجومية ""fight
:الاحتجاج على البعد، التشبث، المطالبة بالمزيد من الاهتمام. وكلما
زاد الشعور بالتهديد يصبح الشخص أكثر
تشبثًا وتطلبًا، وانشغالًا بالعلاقة.
2.نمط
الارتباط المتجنب / الرافض
غالبًا
ما ينظر الأشخاص الذين يميلون إلى هذا النمط إلى أنفسهم على أنهم أقوياء، مستقلين،
مكتفين ذاتيًا. لا يثقون كثيراً بالآخرين، ولا يريدون الاعتماد عليهم، أو السماح للآخرين
بأن يعتمدوا عليهم. لا يسعون للحصول على الدعم والموافقة في العلاقات الاجتماعية.
عادةً ما يتجنبون التقارب العاطفي، ويميلون إلى إخفاء / قمع مشاعرهم عندما يواجهون
موقفًا يحتمل أن يكون كثيف عاطفيا. إذا شعروا بأن علاقاتهم مهددة فإن طرقهم في تخفيف التوتر والإحباط
تتمثل باستراتيجيات دفاعية " "Flight مثل: النأي بالنفس، إظهار عدم الاكتراث.
3- نمط
الارتباط غير المنتظم / الخائف - المتجنب
يظهر
الأشخاص الذي يميلون إلى نمط الارتباط غير المنتظم سلوكيات غامضة، وغير مستقرين في
علاقاتهم الاجتماعية. يعد هذا النمط من أصعب الأنماط في تكوين علاقات صحية، لأن
لديهم صورة سلبية عن الذات وعن الآخر، وغالبًا ما تكون العلاقة نفسها مصدراً لكلٍ
من الرغبة والخوف. يريدون العلاقة الحميمة والتقارب، ولكن في نفس الوقت، يواجهون
مشاكل في الثقة والاعتماد على الآخرين. إنهم لا ينظمون مشاعرهم جيدًا، ويتجنبون
الارتباط العاطفي القوي، ويتأرجحون بين الخوف من القرب، والخوف من الخسارة.
.
4- نمط الارتباط الآمن
أنماط
الارتباط الثلاثة التي تم تناولها أعلاه هي أنماط غير آمنة. تتضمن صعوبات في تكوين
العلاقات الصحية والحفاظ عليها. في المقابل، يشير أسلوب الارتباط الآمن إلى أن
الشخص يشعر بالراحة في التعبير عن المشاعر. يمكن أن يعتمد البالغون الذين لديهم
أسلوب ارتباط آمن على الآخرين، ويسمحون للآخرين بأن يعتمدوا عليهم. العلاقات مبنية
على الصدق والتسامح والتقارب العاطفي. غالباً يزدهر ذوي الارتباط
الآمن في علاقاتهم، ولا يشكل لهم البقاء وحيدين هاجساً مقلقاً.
وما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن الشخص لا يندرج بالضرورة تحت نمط واحد
بنسبة 100٪. يمكن أن يكون لدى الشخص مزيج بين أكثر من نمط، ويمكن أن تتغير أنماط
الارتباط خلال أحداث الحياة الكبرى، كما تتغير في العلاقات المختلفة. يمكن للشخص أيضاً
أن يطور ارتباطاً آمنًا عندما يكون في علاقة آمنة. على النقيض، قد يتحول نمط الشخص
من آمن إلى غير آمن بعد التعرض لصدمةٍ ما. هناك ثباتٌ نسبي للأنماط، إلا أن الأبحاث تشير
إلى أن تجاربنا الجديدة تدمج باستمرار، وتحدث تأثيراً على هذه الأنماط القديمة. كل
هذه الاحتمالات والافتراضات تصرخ بصوتٍ عالٍ: ليس هناك حاجةً لتلصق على جبهتك، أو
على جباه الآخرين، أيًا من هذه الأنماط. فالهدف الأساسي من وجود هذه التصنيفات هو
تحديد السلوكيات غير الصحية، وتأطيرها، وفهم ما قد تحتاج إلى العمل عليه من أجل
تحسين حياتك العاطفية.
كيف تؤثر أنماط الارتباط على الطريقة التي نحب
بها
الشخص الآمن قادر على النظر إلى داخله، إدراك احتياجاته،
والتعبير عنها بشكل صحي للآخر، وهو أيضاً قادر على إدراك احتياجات الأخر، وتقديم التعاطف
والاهتمام. قرأت وصفاً مغرياً لنعيم العلاقة مع
شخص آمن، يصفها بـ "الدائرة الملكيّة": تكون في
هذه الدائرة رفاهيتك مهمة، رأيك مهم، تشعر بالقبول والإعجاب. فهو يستجيب لك بوعي،
وبصورة متسقة، مما يجعل منه شخص يمكن التنبؤ به، وهذا هو لب الأمان في العلاقات.
بينما
مع أشخاص لا يشعرون بالأمان ستكون الدائرة أقل رفاهية، فهم منشغلون بمخاوفهم
الداخلية، وحتى يخففوا من وطأتها، قد يلجئون إلى تفاعلات تضر بالعلاقة، وهذه
التفاعلات/ردود الفعل في كثير من الأحيان معممة، تلقائية، جامدة، أشبه ما تكون
بنصوص قديمة مدوّنة داخل عقولهم بوصفها الطريقة الأمثل لحماية ذواتهم.
الأشخاص الذين يميلون إلى النمط غير
المنتظم/ المتجنب-الخائف تبدو علاقاتهم مضطربة، إن عدم قدرتهم على تنظيم مشاعرهم
تجعل من العلاقات المقربة عبء كبير يرهقهم، بينما هم في أمس الحاجة إليها. كما أن
الطرف الآخر في العلاقة معهم سيكون مشوّشاً في كثير من الأحيان، ويتطلب الأمر الكثير
من الصبر والتفهّم لتستمر العلاقة.
الأشخاص ذوي النمط المتجنب مدركين لحياتهم
الداخلية (الأفكار، والأحاسيس، والمشاعر)، لكن مشكلتهم تكمن في القدرة على إيصال
هذه المشاهد الداخلية للآخرين. في حالة احتدام صراع أو جدال ما في العلاقة غالباً
ما يتخذون موقفاً جامداً، صارماً، ويكونون أقل وضوحاً في التعبير عن استيائهم،
وبينما هم في حالة توتر داخلية، قد يلجئون إلى الهجر لتهدئة أجسادهم وعقولهم،
فيبدو المشهد من الخارج وكأنه لامبالاة محضة، وهو ليس كذلك.
الأشخاص ذوي نمط الارتباط القلق أقل
وعيًا بما يحدث دواخلهم، وعلى الرغم من أنهم أفضل في التواصل، إلا أنهم أقل قدرة
على التحدث عن مشاعرهم وأفكارهم بموضوعية دون الوقوع في فخ استثارة/تنشيط
الانفعالات، ومن ثم إظهارها بصورة مضخمة غالبا ما تبدو ظاهرياً على هيئة محاولات
للسيطرة وتضييق الخناق على الآخر.
وقد
أظهرت الأبحاث أن الأشخاص ذوي النمط القلق وذوي النمط المتجنب -للأسف- ينجذبون إلى
بعضهم البعض، وهو ما أطلق عليه فخ القلق-المتجنب avoidant-anxious trap
حيث يغذي كل منهما الاحتياج غير الصحي للآخر، على الرغم من أن كل منهما يكره طريقة
الآخر، إلا أنه يحتاج إليها، وينجذب لها، لأنها تساعده ليحافظ على مسافة معقولة في
العلاقة. وهذا يدخلهما في حلقة مفرغة، وكأنهما عالقان مع بعضهما البعض.
يمكن أن نرى من خلال هذا الاستعراض مواطن اختلافنا،
إنّ تعاملنا مع العلاقات المقربة/ الحميمية، لا يتم بمعزل عن أنماط ارتباطنا،
والاستراتيجيات التي تعلمناها منذ الصغر لإدارة وتنظيم مشاعرنا. إنّ هذا الفهم ليس
صكاً لإخلاء مسؤولية أيّ بالغٍ نحو تصرفاته، ولا تبريراً لأي سلوكٍ مؤذٍ. نحن
كبالغين لم نعد أطفالا في علاقة اعتمادية من طرف واحد. وهنا يحضرني تقسيم المتخصص
في علم نفس النمو الكندي وليام بلاتر للمراحل الافتراضية للوصول إلى النضج العاطفي
في العلاقات وهي كما وردت في كتاب ريتشارد
فولب Richard Volpe (الطفل الآمن: دروس خالدة في الأبوة والأمومة The Secure Child: Timeless
Lessons in Parenting):
المرحلة
الأولى: الاعتمادية غير الناضجة، وهي المرحلة الأولية من حياة الطفل، حيث يعتمد
بالكامل في وجوده على مقدم الرعاية، وهي غير صالحة لأن تكون مصدرا مستمرا للشعور
بالأمان.
المرحلة
الثانية: الاستقلالية، المرحلة التي يبدأ الطفل فيها بمحاولة الانسلاخ من
الاعتمادية غير الناضجة، ويدرك ضرورة تنمية قدراته ومهاراته للتعامل مع العالم.
المرحلة
الثالثة: الاعتمادية الناضجة، وفي هذه المرحلة يدرك الشخص أنه لا يمكن أن يكون
آمنا من خلال الاستقلالية فقط، فهو يحتاج الآخر ليوثق شعوره بالأمان، وفق مبدأ
التبادلية " الأخذ والعطاء"؛ يعزز كل طرف بمعرفته ومهاراته شعور الآخر
بالأمان.
ليس
المدى العمري هو الذي يحكم على بقائنا في أي من هذه المراحل، فقد نتنقل فيما بينها
بحسب أوضاعنا وحالاتنا النفسية. الوصول إلى مرحلة الاعتمادية الناضجة، التي فيها تستقر
العلاقات وتزدهر، يتطلب إعمال للوعي، وتحمل للمسؤولية. إذا نحا أي ٌّمن الطرفين إلى
الاستقلالية فإن العلاقة ستصبح راكدة. وإذا نحا أي من الطرفين إلى الاعتمادية غير
الناضجة، ومال بشكلٍ مفرطٍ على الآخر، فقد يتراكم الاستياء، وتصبح العلاقة مُثقَلة.
إيجاد نقطة ارتكاز للعلاقة هو مسؤولية الطرفين.
ومن هنا، تأتي أهمية وضع الحدود الشخصية، ففيها تشذيبٌ
لأطراف ذواتنا الحادة، وحماية ٌ لأطراف ذواتنا المجروحة. هذه الأطراف التي تحدث في
تشابكها دوائر التعلق المضنية، وتزيد من احتمالية حدوث الأذى بشكلٍ درامي.
الحدود الشخصية في العلاقات: حماية استقرارك
العاطفي من التزعزع
"الوعي
بالحدود أمر بالغ الأهمية لبناء علاقات صحية، والتعافي من الضرر السابق، إنها تحدد إلى أي مدى
يمكنني أن استمر بأريحية في علاقة ما. لأنها تحدد أين أنا؛ أين تنتهي مساحتي النفسية والجسدية،
وأين تبدأ مساحة الآخر. الحدود هنا
مفهوم غير مرئي، لكنها تثير تجربة حقيقية في دواخلنا،
الحدود حقيقية."Charles Whitfield
في حين قد يوحي مصطلح الحدود بخلق مسافة غير مرغوب
بها بين الطرفين، إلا أن وجودها هو الأرض الصلبة التي تضمن جودة العلاقة وديمومتها.
الحدود الشخصية القوية مبنية في أساسها على احترام
الذات واحترام الآخر: من خلالها يمكن أن تحمي ملكيّتك، وتحدد مسؤوليتك. أنت تعي
الآن بكل وضوح أن الجهاز الذي بيدك الآن هو ملكك، وأنك مسؤول عن كل ما يصدر منه، لكن
في العلاقات الأمر ليس بذات الوضوح، مسؤولياتنا وملكياتنا ليست أمورا ملموسة؛ هي مشاعرنا،
أفكارنا، اختياراتنا، احتياجاتنا، وتفضيلاتنا. حين تضع حدودا صحية أنت تحافظ على سلامة هويتك،
تقديرك لذاتك، وكذلك تحمي هوية الآخر، وتقديره لذاته. الحدود الصحية وكيفية تحديدها بحرٌ لا قرار له،
لكن أود هنا أن أعرّج على جانبين مهمين عند وضع الحدود الشخصية.
الأول: ضبط التوقعات، والوعي بالاحتياجات والرغبات
لا نولد ونحن على وعي كامل بذواتنا، إنها عملية
استكشافية تحدث على طول الطريق، الكثير من التوتر والصراع في العلاقات يأتي من
الجهل بهذه المنطقة. ربما ولدنا في عائلات لم تقبل احتياجاتنا، فتعلمنا أن نخفيها،
ونهملها. وفي هذه الحالة تكون حدودنا في غاية الميوعة؛ إذا كنا لا نطالب بحقوقنا، ولا
نصرّح برغباتنا، ولا نعبر عن انزعاجنا، فلا يمكن أن يصل للطرف الآخر أي صورة واضحة
عن الحدود التي لا يجب عليه أن يتجاوزها. إن رفع مستوى الوعي بما يحدث في حياتك الداخلية:
ما الذي يرضيك؟ ما الذي يؤذيك؟ هي خطوة أولية لتعرف أولاً ما هو كيانك الذي ستحميه،
ومما ستحميه. ثمّ تأتي مهارة الحزم وتوكيد الذات في التعبير عن نفسك وعن حدودك.
تعبيرك عن احتياجاتك ورغباتك بشكل صريح يساعد الآخر في فهم توقعاتك منه، ويساعدك أيضاً على الوعي بتوقعاتك غير الواقعية، والتي غالبا ما تكون
غير موعيّة. يدخل بعض الناس في علاقات، وهم يضعون على عاتق الآخر بالكامل عبء تعافيهم،
تحقيق أحلامهم، وتعويضهم عن الماضي. مثل هذه التوقعات ترهق الآخر، وتزهق العلاقة. يساهم الوضوح مع النفس
ومع الآخر في التنبه لمثل هذه التوقعات غير الناضجة، والتعامل معها مبكراً قبل أن تضرّ
بالعلاقة.
الثاني: تحديد
أين تبدأ المسؤولية، وأين تنتهي
كل
علاقة بين بالغين تتضمن -بالضرورة- قدراً من المسؤولية، وفقاً لمبدأ التبادلية،
أنت مسؤول بالكامل عن أفعالك ومشاعرك، في حال أخطأت، فالاعتذار مسؤوليتك. في حال
قصرت، فالتعويض مسؤوليتك. لكن لست مسؤولا عن أفعال الآخر ومشاعره، ليست مسؤوليتك
أن تعتذر من الآخر لأنه غاضب أو حزين. الشعور بأنك مسؤول دائماً عن أفعال/ مشاعر
الآخر هو أمرٌ مضني، يضر بالعلاقة ولا ينفعها. وهنا يجب أن نميز بين التعاطف Empathy وهو
من أسمى حالاتنا الإنسانية؛ حين نشعر بالآخر، نتفهم ما يمر به، نكون موجودين
بقربه، مهتمين، ودافئين. وبين حالة أخرى تخضع لدوافع مختلفة، نشعر فيها بأننا مضطرين
للقفز مع الآخر في ناره، ونحاول الإنقاذ أو الإصلاح من هناك، وهو ما لا يحدث
غالباً. فحين يكون أحدهم في موقف ضعف، فهو يحتاج إلى شخص قوي بجواره، ولا يحتاج
لمن يشاركه ضعفه. يحميك أيضاً تحديد أين تبدأ مسؤوليتك وأين تنتهي، من التلاعب
والابتزاز العاطفي، سواءً كان يحصل بوعي أو بدون وعي. حين تدرك جيدا بأنك مسؤول عن
أفعالك فقط، لا يبقى مجال للمتلاعبين الذين غالباً ما يتغذون بشراهة على شعورك
بالذنب. لنتذكر بأن جوهر العلاقة الصحية ليس تحكماً/ تأثيراً في بعضنا البعض، بقدر
ما هو تواجد/دعم لبعضنا البعض.
في
موضوع كهذا، علينا أن نعي بأنه من غير المعقول أن يستوعب شخصان بعضهما البعض
ويتفقان بنسبة 100٪، ستتعارض الرغبات والمصالح بكل تأكيد، وستتصادم الحدود
أحياناً، وهي المنطقة التي يحدث فيها الأذى العرضي ّالذي لا مناص منه، في هذا الاقتباس
للكاتب الياباني هاروكي موراكامي وصفٌ لهذه الحقيقة الموجعة:
" على الرغم
من بذلك لأقصى جهودك، سيتأذى الناس عندما يحين وقت تعرضهم للأذى"
لا يمكن أن تلتزم بالحدود تماما في كل العلاقات والسياقات، قرأت مرة بأن المعيار
الذهبي الذي من خلاله تحدد ما إذا كانت تنازلاتك وتجاوزاتك لهذه الحدود صحية أم
لا؟ هو أن تسأل نفسك هل تقوم بذلك بدافع الحب والاهتمام؟ أم لأنك تشعر بأنك ملزم، وتخشى
عواقب عدم القيام بذلك؟ إذا كنت تتنازل بدافع الود، وليس بسبب خوفك من أن تخيب
توقعات الآخر، فحدودك غالباً بخير.
لماذا يعد الانفصال تجربة قاسية ومؤلمة؟
تطور نظام الارتباط لدينا ليثنينا عن أن نكون وحدنا. تتمثل إحدى
طرق عمله لتحقيق ذلك في خلق إحساس عارم بالألم، عندما نجد أنفسنا فجأة لوحدنا. لقد
وجدت الدراسات أن نفس المناطق التي تضيء في فحوصات تصوير الدماغ عندما تكسر إحدى
الساقين، يتم تنشيطها عندما نفترق عمن نحب. هذا رد الفعل المرئي على الانفصال، وهو
يقول بأن أدمغتنا تستجيب للانفصال بطريقة مشابهة لتلك التي تستجيب فيها للألم
الجسدي. لكنّ رد الفعل غير المرئي قد يصوّره الشعراء بشكلٍ أكثر دقة من الأشعة. هنا
عنترة بن شداد يرثي غياب شدته وقوّته التي كانت في أرض المعركة، عندما صار في حضرة
ألم الفراق:
"لَحى
اللَهُ الفِراقَ وَلا رَعاهُ
فَكَم
قَد شَكَّ قَلبي بِالنِبالِ
أُقاتِلُ
كُلَّ جَبّارٍ عَنيدٍ
وَيَقتُلني
الفِراقُ بِلا قِتالِ"
لأنّ العلاقات
المقرّبة/ الحميمية مُحمّلةٌ بالمعاني، فإنّ انتهاؤها يُخّلِف فراغاً ثقيلا مؤلماً،
لا نفقد الشخص الذي انفصلنا عنه فقط، وإنما يتزعزع بداخلنا الكثير مما بنيناه معه.
الخطاب الساذج الذي يدعو إلى تعجيل عملية النسيان والتجاوز بحجّة أنّ الانفصال عن شخص
لايشّكل خطراً أو تهديداً حقيقياً للحياة، وأنّ عملية الاستبدال ممكنة، يغفل هذا
الجانب الحقيقيّ العميق من تجربة الارتباط. عملية التعافي تتطلب أن نحترم
طبيعتنا، ونسمح للحزن بأن يأخذ مساره، ونحيط أنفسنا بعلاقات داعمة، حتى نخلق معانٍ
جديدة، تساعدنا على المضي.
أخيراً، هذا الجانب الذي يؤثر بشكلٍ كبير على علاقاتنا
ومشاعرنا، لا يجب أن يبقى مخفياً. حتى لا تكون أحكامنا سطحية، و مبنية على الافتراض بأنّنا
متشابهون. إنّ الوعي بهذه الاختلافات، والتعامل من خلالها، يجعلنا أكثر تفهماً، ويمكننا
من إدارة علاقاتنا ومشاعرنا بصورةٍ أكثرَ عقلانيةً ورحمة.
المصادر:
Johnson, S. M. (2019). Attachment
theory in practice: Emotionally focused therapy (EFT) with individuals,
couples, and families. Guilford Publications.
Hazan, C., & Shaver, P. (1987). Romantic
love conceptualized as an attachment process. Journal of Personality and Social Psychology, 52(3),
511–524
Levine, A., & Heller, R. (2012). Attached:
The new science of adult attachment and how it can help you find-and keep-love.
Penguin.
Whitfield, C. L. (1993). Boundaries and
relationships: Knowing, protecting, and enjoying the self. Health
Communications, Inc.
Volpe, R. (Ed.). (2010). The Secure Child:
Timeless Lessons in Parenting. IAP.